لا بد من حماية المريض والطبيب في آن

تتداول وسائل الإعلام، بين فترة وأخرى، قضية تتعلق بعمل طبي معين، فتذكر في أغلب الأحيان وجهة نظر المريض فقط، فتأتي التفاصيل مبتورة من جهة ومضخمة وغير دقيقة من جهة أخرى·
يتعرض الطبيب خلال ممارسة مهنته لارتكاب بعض الأخطاء، خصوصاً في الحالات المرضية الحادة التي تتطلب منه اتخاذ قرارات حاسمة في وقت قصير· وقد نشرت وسائل الإعلام قضايا ثبت فيها الخطأ الطبي، وتداولت في قضايا كثيرة، فيما كانت قيد المراجعة أمام القضاء، انتهت ببراءة الطبيب لعدم ثبوت الخطأ· الأمر الذي يتطلب من الإعلام التعامل مع قضايا كهذه بتحفظ وحكمة، من أجل المحافظة على ثقة المجتمع بالجسم الطبي، وحتى لا يلحق من جرائها الأذى والتأثير الجذري على مستقبل الطبيب وحياته· وحيث أن ثقة المريض بالطبيب هي الضمانة الأساسية لحماية مصلحته، يتوجب على الطبيب احترام هذه الثقة وإعطاء المريض الاهتمام الكامل، من ناحية الحصول منه على كافة المعلومات المتعلقة بمرضه، والقيام بالفحص السريري بدقة وتأنٍ وروية، وإجراء الفحوصات المخبرية والشعاعية الضرورية، وإعطائه العلاج المناسب، وإيلائه الرعاية الطبية الصحيحة والمتابعة الضرورية·

وبما أن طبيعة موجب الطبيب هي موجب وسيلة وليس موجب نتيجة، فإن على الطبيب الالتزام أمام مريضه ببذل العناية الطبية المطلوبة، التي تشترطها أصول مهنته ومقتضيات فنه، وفقاً للمعطيات العلمية والقواعد الطبية الحديثة المستقرة في اختصاصه، وعدم الالتزام بتأمين الشفاء الكامل للمريض· فالطبيب لا يُسأل إذا لم يبلغ النتيجة المعمول عليها في حال نفّذ التزامه كاملاً من دون تقصير، ولم يعتمد وسيلة لا تقرها أصول الطب·

وتقع على عاتق الطبيب التزامات تستند إلى واجب الحرص العام· وأي ضرر يلحق بالمريض نتيجة إخلال الطبيب بهذه الالتزامات تعرضه للمحاسبة، كأن يقدم على إجراء عمل جراحي وهو في حالة السكر، أو أن يجري جراحة على الفخذ الأيمن بدلاً من الفخذ الأيسر·

كما تفرض على الطبيب واجبات ترتبط بالعمل الطبي، منها: اعتباره مخطئاً إذالم يقدم العلاج أو العون في حالة الحاجة إليه، أولم يستمر في علاج المريض ومتابعته في ظروف يترتب على موقفه ضرر بالمريض، أو إذا أخل بالسر المهني·

والخطورة في الموضوع أن بعض الأطباء يقع في خطأ الاعتقاد بأن هذه الالتزامات القانونية هي مجرد واجبات أدبية، تخضع لسلطته التقديرية وبأنه فوق المساءلة·

وتعتبر المسؤولية الطبية التي تقع على عاتق الطبيب مسؤولية عقدية، نتيجة العقد الضمني بين الطبيب والمريض· فاستقبال الطبيب لأي مريض في عيادته، يعتبر تعاقداً غير مكتوب بين الطرفين، يتحمل فيه الطبيب المسؤولية حتى لو قدم خدماته بصورة مجانية· وتصبح المسؤولية العقدية تقصيرية: جرمية أو شبه جرمية في الحالات الآتية:

1- تجاه المريض: عندما يكون العقد منتفياً أو منعدماً أو باطلاً لعدم إباحة موضوعه، كأن يتناول العقد إجراء تجارب خطيرة على جسد المريض لغير هدف علاجي، أو امتناع الطبيب عن إعانة مريض في حالة الخطر· وتصبح المسؤولية جزائية في حال وفاة المريض أو تعرضه لضرر جسدي·

2- تجاه الغير: مثل إعطاء تقرير كاذب، يؤدي إلى إدانة الغير أو إلحاق الضرر به·

شروط المسؤولية الطبية:

1- خرق واجب الإنسانية الطبية: مثل الامتناع عن تقديم المساعدة الطبية أو إعلام المريض بالحالة التي يعاني منها أو استشارة طبيب اختصاصي آخر، وعدم رضى المريض على تدخل الطبيب، والتدخل الجراحي الخطير غير الضروري لحالة المريض·

2- الخطأ في التشخيص: نتيجة عدم إجراء الفحص المسبق أو إجرائه بخفة، وعدم الإحاطة بكل المعلومات الضرورية، وعدم اعتماد الفحوصات المخبرية و/أو الشعاعية الضرورية· فالخطأ في التشخيص لا يشكل في ذاته الخطأ المهني الطبي، لكنه يشكل خطأً، إذا أهمل ولم يعمل بالوسائل المتوجبة لإجراء التشخيص·

3- الخطأ التقني: نتيجة غياب المعلومات الطبية، ونقص في الخبرة التقنية، ومخالفة القواعد التي تحكم هذا الفن·

4- الخطأ في اختيار العلاج والطريقة العلاجية: نتيجة استعمال العلاج في غير محله أو عدم مطابقته للمعطيات العلمية، أوالخلل في تنفيذ الطريقة العلاجية نتيجة الإهمال وعدم التبصر· وإذا كان الطبيب حراً في اختيار العلاج اللازم من وصفات طبية أو عمل جراحي، إلا أن ذلك يجب أن يكون وفقاً للطرق السائدة المتبعة·

5- انعدام الفحص المسبق لتقرير أو تنفيذ العمل الطبي: إن الطبيب ملزم عدم إعطاء أي علاج أو إجراء أي عمل جراحي، إلا بعد أن يتحقق من ملاءمته مع التشخيص المجرى أو المتوقع، وبأن حالة المريض الصحية تتحمل هذا العلاج أو الإجراء·

6- الخطأ في المراقبة المتوجبة للمريض: إن على الطبيب تأمين المراقبة بصورة عامة على المريض الذي عهد إليه في المستشفى·

وتتطلب المسؤولية الطبية وجود خطأ أدى إلى ضرر، ورابطة سببية تثبت أن هذا الخطأ هو الذي أدى إلى هذا الضرر· ويكون الضرر مادياً كشلل الرجل أو اليد، أو معنوياً مثل ترك المريض في المستشفى مدة طويلة من دون وجود ضرورة طبية·

وتجري محاسبة الطبيب وفقاً لأصول مهنته· فإذا أخل الطبيب بواجب طبي مفروض عليه بحكم نظام مهنته، أو أثبت عن جهل لقواعد العلم أو نقص في المهارة، أو أهمل الحيطة والحذر، أو أغفل الأصول الفنية التي تقتضيها ممارسة المهنة، فالخطأ الذي يحصل نتيجة هذا التقصير يرتب عليه مسؤولية عن الأضرار الجسدية التي قد يتسبب بها للمريض· والقوانين التي تنظر في قضايا الأخطاء الطبية هي:

1- قانون الآداب الطبية·

2- قانون الموجبات والعقود (المسؤوليات المدنية)·

3- قانون العقوبات·

ويتطلب إثبات الخطأ الطبي، التدقيق بالملف الطبي للمريض وإجراء التحقيقات الضرورية· تحال الشكاوى المقدمة إلى نقابة الأطباء على لجنة التحقيقات، التي تجري التحقيق اللازم في كل قضية، وتستعين في أغلب الأحيان بأطباء اختصاصيين· وترفع اللجنة بعد الانتهاء من التحقيق، تقريرها الذي يتضمن مدى مراعاة العمل الطبي للقواعد الطبية العامة والأنظمة النقابية ومدى التزام الطبيب الطرق الصحيحة التي اتبعها، إلى مجلس النقابة الذي يقرر إما حفظ الملف لعدم ثبوت المسؤولية على الطبيب الملاحق، وإما إحالة الملف على مجلس التأديب·

يدرس مجلس التأديب تقرير لجنة التحقيقات، ويتوسع في التحقيق مستعيناً بلجنة مؤلفة من أطباء اختصاصيين من مختلف الجامعات في لبنان، مشهود لهم بالنزاهة وغزارة العلم والمعرفة والبعد عن المجاملة الزمالية، ويملكون الجرأة ليقروا بخطأ طبيب عن قلة احتراز أو إهمال أو تقصير· وتسجل اللجنة بعد انتهاء التمحص والتحقيق في القضية المعروضة أمامها، رأيها في تقرير خطي مفصل، ليصار على ضوئه تحديد المسؤوليات وتقدير نتائجها·

ويعتبر مجلس التأديب الذي يرأسه النقيب محكمة درجة أولى، يتبع أصول المحاكمة العادية السرية· وله أن يأخذ في الاعتبار نية الطبيب، وأن يرجع إلى طرق الإثبات كلها، وأن يدعو الطبيب الملاحق ليستمع إليه، وعلى الأخير تلبية الطلب والإجابة على الأسئلة التي توجه إليه، وإعطاء التوضيحات التي تطلب منه، ويحق له الإستعانة بمحام واحد للدفاع عنه· وبعد انتهاء مجلس التأديب من التحقيق، يصدر قراره إما بتبرئة الطبيب المدعى عليه لعدم الصحة أو لعدم الثبوت، أو بإنزال إحدى العقوبات الآتية بحقه:

التنبيه·

اللوم·

التوقف الموقت عن العمل لمدة لا تتجاوز ستة أشهر· (عدم مزاولة المهنة) المنع من ممارسة المهنة نهائياً·

والقرارات التأديبية قابلة للاعتراض والاستئناف لدى محكمة استئناف بيروت·

وإذا تخطت هذه القضية النقابة إلى القضاء اللبناني، فإن القاضي يتعاطى معها عادة بروية وحكمة وتعمق، نظراً لحساسية الموضوع، ويحتكم في تأدية واجباته إلى التوازن بين حرية الطبيب وحماية المريض من جهة، وبين مصلحة الجسم الطبي ومصلحة المجتمع من جهة أخرى· وللقاضي أن يعين لجنة من أطباء اختصاصيين لإبداء الرأي في هذه القضية، وهو لا يتدخل في طريقة العلاج التي اتبعت إذا كانت وفقاً للأصول المعتمدة·

ويعود القاضي بعد ثبوت المسؤولية الطبية، إلى تحديد نوع هذه المسؤولية التقصيرية، سواء كانت جرمية (مقصودة) أو شبه جرمية (غير مقصودة)· فإذا كانت المسؤولية مدنية فحسب فإنها تتطلب تعويضاً عن الضرر، أما إذا كانت جزائية أيضاً فان عقابها الحبس والتغريم إضافة إلى التعويض عن الضرر· وعادة ما تكون هذه المسؤولية نتيجة جرم الإيذاء غير المقصود أو التسبب بالوفاة عن غير قصد، وذلك على قاعدتي الإهمال وعدم التبصر·

ولا بد من الإشارة إلى أن المادة 186 من قانون العقوبات اللبناني، تعفي الطبيب من مسؤولية ارتكابه خطأ طبياً وبالتالي مساءلته قانونياً، إذا التزم بأربعة شروط حتى ولو مات المريض· وتقضي الشروط أن يكون ممارس العمل الطبي طبيباً مجازاً، وأن يكون قد حصل على موافقة المريض، وأن يمارس العمل الطبي وفقاً للشروط الفنية والتقنية للمهنة وللأمن الطبي، وأن يكون القصد من هذا العمل الطبي الشفاء أو العلاج·

إن كل إنسان يخاف من العقوبات، فالمسؤوليات الجزائية قاسية ومريعة· في المقابل، فإن مفاعيل قانون الآداب الطبية وقانون الموجبات والعقود هي اشد وأقسى من مفاعيل العقوبات الجزائية، لأن الأحكام التي تتخذ بحق الطبيب مثل الشطب من المهنة، أو منع الطبيب من ممارسة المهنة (الموت المهني) هي أكثر قساوة من الحبس، وإن منع ممارسة المهنة مدى الحياة هو بمثابة موت مدني· أما عن تكاثر الدعاوى والشكاوى ضد الأطباء فإنه نتيجة إحساس الأفراد بحقهم الطبيعي في العدالة، مهما قلّ حجم الضرر الذي يتعرضون له· ولا تعكس هذه الدعاوى صحة الادعاء في أغلب الأحيان، لأن المسؤولية الطبية أصبحت تشمل إضافة إلى الطبيب ومريضه وبأبعاد متفاوتة: المؤسّسات الصحية والاستشفائية، والمؤسّسات الضامنة الرسمية والخاصة·

والمسؤولية الطبية موضوع حساس جداً، يتعلق بالأضرار التي قد تصيب المريض في صحته أو حياته نتيجة الخطأ في علاجه· لذا، فإنه يجب التعامل مع هذا الموضوع بحذر ومسؤولية والابتعاد به عن التشهير وضجيج الإعلام، وحصره بالقنوات القضائية· وكما يحق لكل متضرر من أي عمل طبي مقاضاة الطبيب لدى نقابة الأطباء أو المحاكم اللبنانية، إلا أنه لا يجوز إلقاء التهم ضد الطبيب والتشهير به إعلامياً، بمجرد أن المريض لم ينل النتيجة التي كان يتوخاها من العمل الطبي، مع معرفته بالتزام الطبيب الطرق الطبية الصحيحة، لأن في ذلك تعريض بسمعة الطبيب ومستقبله· والهدف الرئيس في النهاية هو الوصول إلى نظام متوازن، لا يشكل الخوف من الملاحقة عنصراً طاغياً على الطبيب يمنعه من حريته في الممارسة والعلاج، ولا يبقي الطبيب فوق المساءلة·

السابق
اعتصام في اليوم العالمي للمفقود العربي
التالي
سباق بين جلسة بري وحكومة ميقاتي