هكذا ثبتت براءة حزب الله من تهمة استهداف الطائف

إذا كان انتقال زمام الأكثرية من فريق 14 آذار الى المعارضة السابقة قد شكل إنجازا بل انتصارا سياسيا لحزب الله (وحلفائه)، إلا ان الجانب الآخر من الكوب يبدو مليئا بالأعباء والمسؤوليات التي تجعل حركة الحزب محكومة بضوابط وقيود، لعلها لم تكن موجودة بالقدر ذاته عندما كان يصول ويجول في المعارضة.

ولعل الروحية التي طبعت كلمة السيد حسن نصر الله خلال الاحتفال بذكرى رحيل الامام الخميني، أمس الأول، تعكس دقة موقع الحزب في هذه المرحلة، بصفته «أم الصبي» في الاكثرية الجديدة، كما تجلى عبر الطريقة التي اعتمدها «السيد» في مقاربة مسألتي اتفاق الطائف وتشكيل الحكومة.

كان لافتاً للانتباه، في هذا السياق، تشديد نصر الله على وجوب تفادي الدعوة الى تعديل الطائف تجنباً لزيادة الانقسامات الطائفية، مقترحاً ان يتم التركيز في المقابل على فكرة تطوير النظام بالتوافق والإجماع. وتكمن أهمية هذا الموقف بالدرجة الاولى في انه يثبت بالصوت والصورة ان الحزب ليس بوارد الدفع نحو ضرب الطائف والانقلاب عليه، سعياً الى استبدال المناصفة بالمثالثة، كما كان يُتهم من قوى 14 آذار خلال السنوات الماضية، بل إن قائده خرج عبر خطابه الأخير ليشق طريق الواقعية السياسية في تناول هذا الموضوع الحساس، محاولاً التوفيق بين الممكن والمرتجى.

ولعل الحزب وجد اللحظة الراهنة ملائمة كي يُفرج عما يُضمره، وينادي بتغيير «الطائف» بصوت مرتفع، ذلك ان أزمات هذا الاتفاق الذي تحول دستوراً تتخذ أشكالاً مختلفة وتقفز من سيئ الى أسوأ، ناهيك عن ان البطريرك الماروني بشارة الراعي نفسه يتقدم الآن صفوف الداعين الى طائف ثان، الأمر الذي كان من شأنه ان يؤمن تغطية نموذجية للحزب من أجل الذهاب بعيداً في سعيه «الافتراضي» الى إسقاط الطائف، من دون ضبطه متلبساً بالجرم الطائفي المشهود.
ولكن نصر الله قرر ان يسلك اتجاهاً مغايراً، إذ سار في الوسط بين الرأي المتشبث باتفاق الطائف وذاك المتحمس لتغييره، محاولاً ان يمد جسراً بينهما من خلال اقتراح فكرة البحث في تطوير النظام، من وحي التجربة وما أظهرته من ثغرات وفجوات في الممارسة الدستورية وفي أدوار المؤسسات والصلاحيات.

وبدا نصر الله حريصاً، في الوقت ذاته، على التأكيد بأن أي تطوير للنظام يجب ان يتم بالتوافق والإجماع وليس بالغلبة. وهنا أيضاً، أوحى بأن لا مكان لسلاح المقاومة في المعادلات الداخلية، وأن لا صحة لمقولة قوى 14 آذار بأن الحزب يستخدم غلبة السلاح لفرض إرادته السياسية في الداخل، علماً انه لم يتمكن بعد من النجاح في الجهد الذي يبذله للمساعدة في تشكيل حكومة الأكثرية الجديدة، فكيف بإعادة صياغة النظام؟
والمفارقة، ان من يتهم الحزب بالعمل على توظيف سلاح المقاومة لتغيير الواقع السياسي ومصادرة دور الدولة هو ذاته من وظف «سلاحه» المتمثل في جهاز أمني رسمي لمصادرة صلاحيات رئيس الجمهورية ووزيرين، وصولاً إلى محاولة فرض معادلة جديدة على مستوى توازنات السلطة.

وما يجدر التوقف عنده ان نصر الله لم ينزلق الى السجال الداخلي المحموم، برغم أن مواده المتلهبة متوافرة، وإنما فتح ما يشبه «النافذة» على الفريق الآخر، عبر تأكيده بأن الجميع في لبنان يريد بناء الدولة والمؤسسات، قافزاً فوق الاتهامات الجاهزة والأحكام المسبقة.
نموذج آخر عن «واقعية» الحزب، يعكسه سلوكه في ملف تشكيل الحكومة، حيث وجد نفسه مضطراً الى كظم الغيظ، مستفيداً من خبرته في الصبر والتحمل، وهذا ما عبّر عنه نصر الله بقوله إن أي انفعال منا يؤذي مساعي التأليف لن نقدم عليه.
وعلى هذا الأساس، يستوعب الحزب «لسعات» وليد جنبلاط وفورات غضبه، متعاملاً معها ببرودة أعصاب، لإدراكه أن ما يجمعه مع الزعيم الدرزي على المستوى الاستراتيجي الممتد من خيار المقاومة الى العلاقة مع سوريا يبقى أهم مما يفرقهما على الصعيد التكتيكي. وبهذا المعنى، فإن قول جنبلاط إن الحزب لا يريد تشكيل الحكومة ويضع ميشال عون في الواجهة لن تكون له تداعيات على العلاقة بين الطرفين في المدى المتوسط والطويل، بحيث يُفترض ان تكون تأثيرات هذا الموقف موضعية، لينتهي مفعولها بعد تأليف الحكومة.

ويداري الحزب أيضاً الرئيس المكلف نجيب ميقاتي، متجاوزاً ملاحظاته على بعض جوانب آلية التأليف، ومبدياً الاستعداد لتقديم كل التسهيلات الممكنة له، على قاعدة انه ما زال الخيار الأنسب في هذا الظرف، لأن الحزب ليس بصدد خوض معارك عبثية مع المجتمع الدولي او مع شرائح لبنانية، وبالتالي فإن ميقاتي يظل حتى إشعار آخر بمثابة «الضرورة» القادرة على الحد من «الضرر» الذي قد يراد إلحاقه بالبلد، متى تشكلت حكومة ائتلاف الأكثرية الجديدة.
ويُروى ان السيد نصر الله أبلغ ميقاتي في أحد اجتماعاتهما ان «حزب الله» يمكن ان يتمثل في الحكومة بالصيغة التي تريح الرئيس المكلف ونسيج تشكيلته، فإذا أردت وزراء حزبيين نحن جاهزون، وإذا أردت وزراء يرتدون «كرافات»، فنحن جاهزون أيضاً..

ويتجنب نصر الله في الوقت ذاته ممارسة أي نوع من أنواع الضغوط على العماد عون، الحليف الأساسي في السراء والضراء، من دون ان يعني ذلك انه لا يحاول تليين مطالبه، على الرغم من قناعة الحزب بأنها مشروعة في معظمها.
ولكن، الى متى يستطيع الحزب ان يستمر بإمساك العصا من الوسط.. حتى لا تنكسر؟

السابق
الأمم المتحدة توزّع توجيهات استعداد وتتوقّع القرار الاتهامي مطلع تموز
التالي
حركة مشاورات نشطة لحسم الأسماء وتوقعات بولادة قريبة للحكومة