ثقافة المقاومة… والمشاعات

ماهي الاسباب الكامنة وراء الحملة غير المسبوقة في حجمها من التعديات على الاملاك العامة والمشاعات في محيط بيروت الجنوبي وفي مناطق الجنوب الساحلي؟ ولماذا تتركز هذه المخالفات في مناطق تخضع، بالعرف اللبناني، لسيطرة حركة امل وحزب الله؟ ولماذا تبدو القوى الامنية عاجزة عن ازالة هذه المخالفات، باستثناء بعض ما يضر بحركة الطيران المحاذي لمطار بيروت؟ ولماذا أزيلت فقط عشرات المخالفات جنوبا، فيما بقيت الآلاف صامدة في وجه القانون، لا بل يستمر مسلسل التعديات في عدة بلدات جنوبية، وهو قائم على قدم وساق في الاحياء الداخلية بحي السلم وبرج البراجنة ومناطق الرمل العالي وبئر حسن؟ ومن دون توقف؟

هذه الاسئلة تستدرج المزيد من التساؤلات والأحكام التي تصل الى حد التطرف، عبر محاولة اضفاء بعد مذهبي وطائفي، لا بل عنصري احيانا، حين يتم ادراج ما يجري على انه يعبر عن ثقافة اجتماعية لفئة من اللبنانيين دون سواها. وهو منحى ذو وجهين، واحد من خارج هذه البيئة ينتقص من سويتها المدنية والاجتماعية، وآخر من داخلها يعتبر هذه الظاهرة انها جاءت ردا على مخالفات قامت بها "شركة سوليدير" في وسط بيروت، كما صرح احد رجال الدين "الممتازين" في خطاب له خلال مناسبة حاشدة. وما رسخ في اذهان البعض هذا الاتجاه هو عدم قيام مؤسسات الدولة بخطوات حازمة لازالة هذه التعديات ووقفها، وعد التصرف بما يوحي انها مسألة وطنية وليست احوالا شخصية، إلى جانب عدم مبادرة اي جهة مدنية او دينية شيعية لاتخاذ موقف حازم للرد على هذا السلوك المشين من جهة ثانية.

وعدم ادراج حزب الله وحركة امل في هذا السياق ينطلق من ان هذين الطرفين السياسيين هما من يقودان الطائفة الشيعية في الدولة سياسيا واجتماعيا ويحتكران تمثيلها "ديمقراطيا" في الهيئات التمثيلية السياسية والمحلية والامنية والاقتصادية والنقابية والحقوقية، فضلا عن المقاومة العسكرية والامنية والاستخبارية. وهذا الطرفان، امام ما يملكان من سلطات، في موقع المتهم بتغطية ما جرى ويجري. البعض بالتورط المباشر والآخر بالصمت المريب في الحد الادنى.

وكان انهمك الطرفان امام الملأ خلال السنوات القليلة الماضية، كل على طريقته، بعمليات شراء اراض شاسعة بشكل مباشر وغير مباشر في مناطق مختلفة من البقاع والجنوب، وبتطويب مشاعات وشراء اراض قائمة على خط مشروع الليطاني تمهيدا لاعادة استملاكها من قبل الدولة لاحقا باسعار يحدد قيمتها في هذه الحالة مالك الارض والسلطة. وهذا ما حصل في الجرمق ومنطقة الخردلي وفي خراج الزرارية وغيرها على طول خط الليطاني، وساهم في رفع اسعار الاراضي وزيادة الطلب عليها.
حال الفوضى التي تضج بها اكثر من منطقة على صعيد المخالفات تلقى اعتراضا وتململا لدى عموم المواطنين في هذه المناطق، وهو تململ مشوب بالعجز عن مواجهة هذه الحالة التي يتلمس اصحابها كيف ان التجرؤ على مخالفة القانون والتعدي على ملكيات عامة يحظى بحماية متنفذين يحظون بغطاء سياسي او تنظيمي.

كلّ هذا إزاء حال الاحتكار الديمقراطي الآنفة، وامام العجز عن مواجهة العديد من المشكلات الاجتماعية والسياسية والتنموية التي تعترض ما يفترض انه جمهور حزب الله وحركة أمل، ومع تضعضع ذريعة رمي المسؤولية على الدولة، التي باتت مملة ومهينة في ظل الحديث المتزايد منذ سنوات عن صعود الشيعية السياسية داخل الدولة وسلطاتها، والحضور الثابت والراسخ لحركة امل وحزب الله في السلطتين التشريعية والتنفيذية.

يبقى أنّه في افتعال الفوضى والجلوس على القمة، للتغني او التنصل، ما يعكس ازمة عميقة يصعب التنكر لها وفصلها عن المسار السياسي الذي عاشته الطائفة الشيعية خلال العقدين المنصرمين. فـ"الفوضى" هو الجواب المتاح لتفادي الاسئلة الجوهرية حول الدولة ونموذجها. وإذا كان ما حصل قد حصل رغما عن الثنائية الشيعية، بكل جلالها وقوتها، فهل هذا ما حققته على الارض ثقافة السلطة والمقاومة و"أشرف الناس"؟. واذا كانا هما من يدير هذه العملية او يغطيانها، فبماذا يبشرون الشيعة وبقية اللبنانيين؟ واي نموذج يقدمان لدولة يعدون بها؟

السابق
أسماء الأسد: وردة في الصحراء
التالي
بيروت تجبر السوريين الفارّين على العودة لمواجهة مصير مجهول