أين حقي؟ ومتى أطالب به؟ وممن؟ وكيف؟

لا، لأن لا وجود حقيقي للعامل في القاموس اللبناني. فالعامل اللبناني اختفى من ملفات الذاكرة. والعمال في لبنان هم: سوريون، سودانيون، مصريون، أثيوبيون، بنغلادش، سريلنكيون، نيبال، هنود، عراقيون، فلسطينيون، وغيرهم الكثير، وإن بنسب أقل. يتوزعون على مختلف المهن من بناء وإعمار، وتنظيفات، وحراسة، ونواطير، وعمال مستشفيات، وسواقة، وبيع خضار، وجمع خردوات، وبيع الكعك والقهوة،… .
في الوقت الذي يختار فيه اللبناني مهنة- تعتبر بنظره أرقى وذات شأن أعلى- كالتعليم، والإدارة، والإشراف، والرئاسة، والهندسة بأنواعها، والطب بأنواعه، والطيران، والكتابة، والصحافة، والتجارة بكافة أنواعها، والتدريب على الديموقراطية دُرجة العصر، وحملات توعوية ببرنامج أوروبي أو أميركي لا فرق، إضافة الى وظائف الدولة "الخفيفة النظيفة". لقد غدت صورة مجتمعنا الغارق في الديون شبيهة الى حد كبير- لكن من وجهة مقابلة- بمجتمع الخليج المرّفه والغنيّ والذي يتساوى فيه عدد العمال الآسيويين مع عدد سكانه الأصليين.

إنه لأمر مؤسف أن يترك اللبناني العمالة البسيطة الدخل كبيع القهوة والكعك، والتنظيفات، وغيرها- مع التذكير أن أحد وزراء الداخلية السابقين اعتبر أن العمالة المنزلية النسائية تقلل من قيمة المرأة اللبنانية الراقية-، مبررا بذلك عزوف اللبنانيات الفقيرات عن العمل في الخدمة المنزلية، وانتشار مكاتب استقدام الخدم من شرق آسيا، علما أن بلدنا الفقير بحاجة لكل ليرة لتُنفق على أراضيه.

والأغرب أن جميع تلامذتنا الصغار يختارون، عند توجيه السؤال التافه المعتاد، مهنا تتطلب ميزانيات هائلة، مع غياب أي مطلب طلابي للتخصص في أقسام الفنون على أنواعها! لماذا؟ ربما لأن أذهاننا محشوة بفكرة الإنتاج المادي والتجاري، فالفن في لبنان لا يُطعم خبزا كما هو متعارف، لكنه بالتأكيد يشبع روحا فارغة بحاجة لإعادة تنميتها ثقافيا ووطنيا بكافة أوجهها.

لماذا يا ترى وصلنا الى هنا؟ لأن البيئة الإجتماعية اللبنانية بكافة أطيافها تتشاوف على مهن متواضعة بمردودها المعنوي، إضافة الى المادي- رغم أن بعض البيئات والمجتمعات الفقيرة داخل المجتمع اللبناني توجه أبناءها في مرحلة ما قبل التعليم الثانوي، نحو الحرفة اليدوية كالنجارة والحدادة والميكانيك ومتعلقاته من بيع قطع معدات وتصليح الدواليب، وكانت للرئيس الراحل رفيق الحريري توجهات بهذا الشأن- أي عملية التوجيه المهني مقابل التخفيف من أعداد الخريجين النظريين الهائلة- لكنها على ما ظهر وبدا لم تكتمل لأسباب يمكن القول انها تعود الى أن لبنان عصيّ على العمل والحرفة.

علما أن ثمة خدمات- باتت العائلات اللبنانية بكافة مستوياتها الاقتصادية دون أي استثناء- تطلبها من العاملات والعمال الأجانب وتمتنع عن القيام بها، خدمات مهنيّة على هامش الحياة، مستجدة دخلت قاموس العائلة اللبنانية، مهن لا تتطلب تخصصا أو علما كبيع أجهزة الخلوي، وبيع المياه، والدليفري بكافة أنواعه، والتعليم البيتي المسائي، وغسيل السجاد، وتنظيف المنازل، والطبخ الجاهز، والمونة البيتية الجاهزة، وشراء الثياب والاكسوارات، وبيع الكتب عبر الهاتف، وقراءة مجالس العزاء، والفواتح غيابيا على النيّة حتى لا نتكلف عناء إحياء مناسباتنا الدينية، وكتابة القصائد، وإعداد الأبحاث، واعداد البرامج الاعلامية عبر النت، والمقالات المدفوعة الثمن، والعلاقات العامة، وغسيل وتكفين الموتى، وتوزيع وجمع صناديق الصدقات، الإعتكاف خلف شاشة الكمبيوتر لنقل نصوص أو أفكار من موقع هنا وموقع هناك مدّعين الإنتاج والإبداع،…!!

صرنا مجتمعا جاهزا عبارة عن "غيتو" مقفل على عقلية عدم الإنتاج، عدم الفعاليّة، الى ان وصل الامر الى موقفنا السياسي، خاصة في التظاهرات التي بتنا لا نشارك فيها الا إذا ألقيت علينا كلمة السر، فنصير "بلوكا" واحدا مسبوق الدفع كخطوط التشريج الخلوية التي نشتريها من السوق. هل يمكن القول اننا مجتمع "تنابل"؟
وصار إعلامنا سارقا لا يبدع في إنتاجه الا على طريقة التقليد في النجاحات التي قطفها من قبلنا الإعلام الغربي.
ما معنى أن يصبح إعلامنا بكل انواعه منسوخا في فقراته وضيوفه وفضائحه ومسلسلاته التي لا تمثّل حياة المرأة اللبنانية على حقيقتها في فقرها وتعبها، بل ان صورته تحدثنا عن خادمة تصلح لأن تكون عارضة أزياء، جميلة، فقيرة يعجب بها رب عملها الغنيّ فيتزوجا نهاية الحكاية. علما ان النساء اللبنانيات إعتكفن عن الخدمة في المنزل منذ أزمان. وهذا يذكرنا بالمسلسلات الخليجية حيث المرأة وهي على فراش المرض نراها بكامل أناقتها وتبرجها!! أين تعمل هذه البنت اللبنانية؟ أين معاناتها في العمل؟ أين معاناتها مع كل من سائقي التاكسي، وايجارات المنزل، وادارة جامعتها، وزملائها، ومع كل تفاصيل حياتها اليومية المرهقة؟

المرأة اللبنانية باتت أسيرة صورتها الإعلامية الرديئة وغيرالحقيقية، مما دفع بمن لا تجد في نفسها الصورة المروّج لها إعلاميا لأن تنزع نحوالسير بالتنميط على صعيد جسمها، ولباسها، ومشيها، ولغتها، ونعومتها الفائقة، وتهذيبها السلبيّ، وتفاهة تفكيرها، وإفراغ يومها من كل ما يرتبط بالهموم الإجتماعية والسياسية والإقتصادية والحقوقية.
فأن تتناول لبنانية ما خبرا يخص الاحداث الأليمة في سوريا مثلا (جارتنا الحدودية على فكرة) يُفاجأ بعضهن الى حد الذهول، لدرجة يعتقد معها ان المستمعة وصلت لتوها من جزر الواق واق. وأن تصل التفاهة ببعضهن ألا يعرفن إلا عناوين (المولات) وهي أسواق ضخمة تنتشر في الخليج العربي بشكل مذهل، ووصلت الى لبنان، اضافة الى عناوين مراكز التجميل الجسدي بدءا من الشعر وصولا الى أظافرالرجلين! آلاف الامثلة كمن لا تعرف من هو الطنطاوي الذي صافح بيريز وهي هنا اشبه
بالطنطاوي نفسه الذي لم يتشرف بمعرفة بيريز؟
!
كم من امرأة لبنانية تعرف ما تحويه اتفاقية (سيداو) مثلا؟ وكم من لبنانية تعرف حقوقها المهنيّة في العمل؟ وكم من لبنانية سعت إلى أن تنال حقها من رب العمل عبر اللجوء الى مكتب العمل؟ وكم من امرأة فكرت في الوصول الى آخر نقطة في طريق العودة واليأس من امكانية التغيير في هذا المجتمع البالي الذي أتفق وبقدرة قادرعلى سلب حق كرسه الله للمرأة (ربما في الشريعة الاسلامية فقط) وهو حق تطليق نفسها كما هو الحال بالنسبة لحق الرجل في ذلك؟ وحقها في استلام مناصب إدارية بحسب كفاءتها، وليس بحسب جنسها؟ أن تكون موظفة كفوءة وقديرة لا تنال حقها في التعيين في الموقع المناسب لها الا لكونها إمرأة، اذ لا امرأة في العديد الخاص بهذا المنصب! عجيب.

لماذا؟ والأعجب أن يتم التحامل على موظفة، يفرض عليها القاموس المجتمعي اللبناني الضيق الأفق أن تسكت وتصمت وتصبر وأن تسير"الحيط الحيط قائلة يا رب السترة" وكأن المطالبة بالحق المهدور هو فضيحة؟
هل المطالبة بالحق فضيحة يا سادة المجتمع؟ اذن فلنسكت عن حقوق أخرى هي، بنظر عدد كبير من الناس، ليست ضرورية؟ أليس ثمة مقولة للإمام علي تقول:(ما ضاع حق وراءه مُطالب)؟ أسكتت فاطمة الزهراء حين غُصب حق الامام علي بالخلافة؟ ألم يكن واجبا عليها، رغم انها إمرأة، أن تصمت وتسكت؟ لم تصمت ولم تسكت، للتاريخ، للقضية، للحق، لكل ما يعتقد المرء أنه غُصب منه.

أن تغصبني أرضي وأن تغصبني رزقي ومالي، وأن تغصبني قول كلمة حق في وجه سلطان جائر، قد يكون هذا السلطان الجائر مدير خلف مكتب وموظف مثلي مثله، ويُعيّن مثلي مثله، وكفوء مثلي مثله الا انه هو الباقي الى الأبد، وانا المطرودة كونه لا سلطة إدارية لي.
وبالتأكيد، ومن ضمن الاسباب، هو انني امرأة غير مُعيّنة في المكان الحقيقي بسبب قرارات مجحفة كتبها وأقرها مدير أعلى إرتأى ولأسباب نفسيّة أو شخصية عدم تعيين إمراة في هذا المنصب أو ذاك. لذا أسأل لماذا أدخل الجندر في العمل؟ ومن أدخله؟
الجواب هو بالتأكيد واحد من إثنين: إما أنهم المتشددون حيال المرأة إذ يرونها "عورة"، و"خير للمرأة الا ترى رجلا وألا يراها رجل"!. أو هم الذين لا يحترمون المرأة ويرونها سلعة، أو دُمية، تُوظف لتعطي للمكتب جوا أنثويا ناعما هادئا مهذبا ولطيفا، بعيدا عن خشونة الرجال الذين غالبا ما نراهم في عالم من التشتت أمام موظفة ناعمة، لا أظافر لها تخرمش وتناقش وتحكي وتطالب. بل جلّ مبتغاها أن تنال رضا المدير الذي يحاول المستحيل ليبقيها الى جانبه علها تريحه من هموم زوجته!! فلا يرتدع ضميره ولا يستفيق من سباته الا حين يكتشف ان بعض النساء لسن كما يتصورهن في عقله الجمعي.

على أمل ان تصبح العاملات اللبنانيات، المهدورات الحقوق إجتماعيا ودينيا وسياسيا ومهنيا، أكثر قدرة على التغيير، وإثبات الذات، وحقهن في ميادين إحتلها الرجال، والعمل على تحريرهم من ذهنيات قديمة وبالية.
أخيرا، في بيان صادرعن مركز إعلام الأمم المتحدة دعا الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون المرأة العربية إلى "اغتنام رياح التغيير التي تهبّ على الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لتعزيز حقوقها".

*نص سنوي يُذكر من سرق حقوقي المالية والمعنوية بأنه"ما ضاع حق وارءه مطالب" لكن "الشكوى لغيرالله مذلة".

 

السابق
الوزير الصايغ يروّج لطرح الرئيس الجميل
التالي
اوباما يدعو ملك البحرين الى احترام الحقوق العالمية للشعب