يبدو المشهد الذي تعيشه سوريا هذه الايام مشابها الى حد كبير لذلك الذي مرت به منذ عقود، تحديداً بين اواخر السبعينيات واواسط الثمانينيات، في ظل التشابه الكبير في الظروف واللاعبين الاقليميين والدوليين. المشهد السوري، ومعه اللبناني، الذي يشكل الخاصرة السورية الرخوة كما كان الرئيس السوري الراحل حافظ الاسد يردد دائما، هما في بداية اختبار كباش القوة المفروض عليهما من قبل قوى دولية واقليمية، في استعادة للمشهد الذي ساد قبل عقود، عندما سعت الولايات المتحدة الى اسقاط النظام البعثي في سوريا، عبر لعب ورقة التحريض الطائفي، بهدف تثوير الاكثرية السنية في سوريا، بزعامة «الاخوان المسلمين»، والى جانبهم بعض الشخصيات السنية (من بعثيين ومستقلين)، على «حكم الاقلية العلوية»، كما درجت الدعاية الغربية على القول.
في تلك المرحلة المؤسفة، شرع المتطرفون في سوريا في تنفيذ عمليات قتل وتفجير اصابت المجتمع السوري بحالة من الرعب الشديد، بمؤازرة ودعم مالي وتسليح من النظام البعثي العراقي حينها، في تقاطع غريب مع تصميم واشنطن على الانتقام من الاسد بسبب رفضه لاتفاقية كامب دايفيد ودعمه للمقاومة الفلسطينية والحركة الوطنية في لبنان.
ويسجل مؤرخو تلك المرحلة ان النظام في دمشق ما كانت الامور لتسير في صالحه، لولا رفض المجتمع السوري لـ«إسلاموية» المنتفضين على الاسد، وخوف ذلك المجتمع، بالرغم من طبيعته المحافظة، من تولي الاسلاميين لزمام الامور، ورغبة معظم السوريين بالاستقرار، واعتدادهم بالموقف الوطني والقومي للقيادة السورية.
وللتذكير فقط، فان إسكات صوت آخر المتمردين في حماه في اوائل العام 1982، سبق بأشهر قليلة الاجتياح الثاني للقوات الاسرائيلية للبنان في حزيران، وما تلاه من انكسار عسكري بالنسبة الى الجيش السوري وخروج المقاومة الفلسطينية وتولية اسرائيل لرئيس لبناني وقدوم قوات متعددة الجنسيات الى لبنان..
ومع اندلاع شرارة المقاومة واسقاط اتفاقية 17 أيار ودحر تلك القوات الأطلسية، أيقنت ادارة الرئيس الاميركي رونالد ريغان صعوبة اسقاط النظام في دمشق، وابتعدت، وحليفتها اسرائيل، عن الرمال اللبنانية المتحركة التي جعلت واشنطن تمنى بهزيمة هي الثانية بعد مستنقع فييتنام…
تزامن الانتصار في لبنان مع حسم الامور نهائيا في سوريا بعد اندلاع «صراع الاخوة» بين الاسد واخيه رفعت الذي اشتبه بتحركه خلال فترة مرض الاسد الشهيرة في العام 83، بإيعاز سعودي اميركي.. ومع ابتعاد رفعت، استقرت الامور نهائيا في سوريا، برغم استمرار الخلاف بين دمشق وواشنطن، خاصة في ظل محاولة الاخيرة تحقيق سلام منفرد بين اسرائيل والاردن، خلال فترة الثمانينيات، الامر الذي فشل بدوره.
افتتح الغزو العراقي للكويت العام 1990، مرحلة لغة المصالح بين دمشق وواشنطن، في الوقت الذي احتاجت فيه الادارة الاميركية لحشد تأييد عربي غير مسبوق لانهاء الغزو العراقي للكويت والتحضير لمفاوضات السلام في مدريد العام 1991، بالتزامن مع سقوط الاتحاد السوفياتي والمنظومة الاشتراكية، فانفردت سوريا بعد تحرير الكويت، بالورقة اللبنانية لتحكم لبنان منفردة، وليتمتع لبنان وسوريا معا باستقرار داخلي انعكس تعزيزا لدور المقاومة في لبنان.
لكن فترة التناغم السوري الأميركي وصلت الى حدها الفاصل اثر احداث ايلول 2001، حين اتخذت واشنطن قرارها باجتياح «الدول المارقة» بدءا بأفغانستان، وبرغم التعاون الذي ابداه الاسد الابن، بشار، في الحرب على الارهاب الذي يطال خطره الجميع، تم تصنيف دمشق في اطار «محور الشر» بالنسبة الى الرئيس الاميركي جورج بوش، خاصة في ظل اصرار سوريا على معارضة الحرب على العراق العام 2003، ومن ثم تبني الأسد خيار المقاومة العراقية بوجه الاحتلال الأميركي.
منذ ذلك الحين، اتخذت الادارة الاميركية قرارها بتأديب سوريا، ومع فشل زيارة وزير الخارجية الاميركي كولن باول الذي حمل ورقة مطالب – شروط للاسد، بدأ مسلسل العبث بأمن سوريا، فتحركت مجموعات من الاكراد في مناطق اكتظاظها، خاصة في القامشلي المحاذية للحدود العراقية، وسجلت استباحة جوية اميركية اسرائيلية مستهدفة الداخل السوري. على ان أوج التصويب الاميركي حمله تاريخ استصدار القرار 1559 العام 2004، لينتهي التفويض الممنوح لدمشق في لبنان، ويبدأ العد العكسي الفعلي لاستهداف سوريا.
تمكنت الادارة الاميركية من حمل الاسد على سحب جيشه من لبنان اثر اغتيال الرئيس رفيق الحريري في العام 2005، الا ان الداخل السوري لم ينكشف امام المحاولات الخارجية، وتولى الحليف الاكبر لسوريا، أي «حزب الله»، حماية الخاصرة اللبنانية، وبرغم شن اسرائيل، بقرار اميركي، عدوانها على لبنان في تموز 2006، الا ان المقاومة تمكنت من تسجيل انتصار جديد، برغم تغييرات طفيفة على قواعد اللعبة.
كانت تلك الفرصة الاخيرة بالنسبة الى بوش لاستعادة زمام الامور، ومع تولي الرئيس الجديد باراك اوباما الرئاسة اوائل العام 2009، بدا ان ثمة انعطافة في السياسة الاميركية في المنطقة، قوامها معالجة أزمات المنطقة بواقعية و«هدوء»، ومحاولة الخروج باقل قدر من الخسائر الاضافية من المستنقع الاميركي العراقي، مع التركيز على الحرب على الارهاب في افغانستان وفي باكستان، والتوصل الى حل سلمي للملف النووي الايراني.
برغم التعديل النسبي في الاستراتيجية الاميركية للمنطقة، الا ان واشنطن لا زالت على رأيها في ان انهاء المقاومة قوامه فصل المسار الايراني – السوري، ما يعني ضرب دور دمشق في دعم وامداد المقاومة في لبنان وفلسطين، وعزل طهران ايضا، بعد فشل محاولات اسقاطها من الداخل الايراني.
وقد صدرت بعض الدعوات في الداخل الاميركي لاجتذاب سوريا اثر فشل ضرب المقاومة خلال عدوان تموز 2006، لكن التطرف الاسرائيلي، من جهة، وعدم قبول دمشق بالشروط الاميركية، من جهة ثانية، دفعا بالادارة الاميركية الى مخطط آخر، قوامه الضغط على سوريا من الداخل والاستفادة من الواقع العربي غير المستقر اليوم، من دون ان يعني هذا الامر نية واشنطن اسقاط النظام في دمشق.. حتى الآن. أما الهدف الاساس بالنسبة الى واشنطن واسرائيل فلا يزال كما هو: فرض تسوية ظالمة على صعيد الصراع العربي – الاسرائيلي، من غير الممكن ان تتم من دون ضرب الدور السوري والمقاومة في لبنان، تمهيدا لاستهداف دور طهران المتعاظم في المنطقة.
لماذا كسر المقاومة في لبنان؟
في ظل التشدد الاسرائيلي الذي اجهض الكثير من جهود اوباما للتقدم في عملية السلام ولو بفتات يقدم للفلسطينيين، يبدو ان واشنطن قد رضخت من جديد لحليفتها، وتحذر أوساط متابعة من ان استهداف دور سوريا، يهدف في ما يهدف الى فرض التوطين على لبنان، في مخطط يهدف أيضاً الى التخلص نهائياً من قضية اللاجئين الفلسطينيين، لا بل ان تحقيق يهودية الدولة في اسرائيل بموازاة دولة فلسطينية ضعيفة وهشة، قد يدفع بالدولة العبرية الى محاولة تنفيذ الحلم القديم الجديد بتهجير فلسطينيي الاراضي المحتلة للعام 1948، أي «ترانسفير» جديد!