تخيلوا محاميين يتزوجان في الثلاثينيات من أعمارهما. أصبحا منظمين في حياتهما، ولكليهما مكتب ومنزلة ومكان سكن محترم. فهو على ثقة بأنها بعد الزواج ستتحول للسكن معه في بيته، وهي من جهتها على قناعة بأنه سيتحول للسكن معها في شقتها الفخمة. هذه النقطة غير واضحة بين الزوجين. بعد الزواج فورا يدخل الاثنان المقعد الخلفي لسيارة الاشبين المزينة. ينظر هذا في المرآة ويسأل: "الى أين"؟ تُجيب: "الى شقتي"، ويجيب هو: "الى بيتي". يقف الصديق الحائر. يبدأ الزوجان الشجار لكن للامتناع عن فضيحة يقضيان الليلة الاولى في جناح في فندق. كلاهما ممتليء مرارة وغضبا. فهي تقضي الليلة في غرفة النوم وهو على الأريكة في الصالون. وهناك أمر واحد محقق هو انه لا يولد أولاد من هذا الزواج.
في الاسلام عدة أنواع من الزواج بحسب نية الطرفين. يسمى أحد الأنواع "زواج المنفعة". يقع هذا عندما يتزوج الطرفان لا من اجل انشاء حياة زوجية منظمة بل كي يبدوا في العائلة وبين الناس متزوجين بسبب المنفعة التي يُحدثها هذا الوضع لكل واحد منهما.
أما نوع آخر من الزواج في الاسلام هو "زواج المتعة"، وهو قصير على نحو عام ومتعلق بمقدار "المهر". هذا ما ينوي طرفا الاتفاق بين م.ت.ف وحماس احرازه، أي المنفعة والمتعة لا الاولاد. الامر المهم هو ظاهر الوحدة والاطراء على احرازها لا الوحدة نفسها.
* * *
كي نفهم ما الذي دفع م.ت.ف وحماس الى الاتفاق، يجب علينا ان نفهم المحيط الذي تعملان فيه: فمن جهة يجري أبو مازن قُدما مع الاعداد لاعلان دولة فلسطينية في يهودا والسامرة وغزة مع تلقيه دعما قويا من اوروبا وربما حتى من البيت الابيض.
وبهذا الايقاع سيصبح في ايلول رئيس دولة حقيقية، دولة كسائر دول العالم. لكنه يرى ان هذا الامر سيكون كارثة. لانه في الساحة الداخلية، الفلسطينية والعربية، سيُتهم بالخيانة لانه تنازل عن حيفا ويافا وتخلى علاوة على ذلك عن اللاجئين في مخيماتهم في لبنان وسوريا والاردن، وفصّل لنفسه دولة على 22 في المائة من فلسطين مع ميزانية ضخمة بالدولار واليورو.
يرى أبو مازن ان هذا الوضع لا يطاق. فالحديث عن فرق كبير، كبير جدا، بين وضعه الدولي الممتاز اليوم وبين منزلته المحلية باعتباره خائنا. فهو يحتاج الى دعم ليسد أكبر أفواه منتقديه من رجال حماس.
وهكذا حتى لو أفضى الاتفاق الى فوز من جديد للمنظمة الارهابية الاسلامية بأكثر مقاعد المجلس التشريعي كما حدث في كانون الثاني 2006 بل الى فوز حماس بمنصب الرئاسة، في الانتخابات التي يفترض ان تُجرى على حسب الاتفاق في غضون سنة، فمن الأفضل لأبو مازن ان يخسر الدولة لحماس من ان يُعرض باعتباره خائنا. يجب عليه أن يبلغ ايلول مع هدوء مصنوع في ساحته الخلفية، وهو يحاول شراء هذا الهدوء لهذا الاتفاق.
في الآن نفسه يقف قادة حماس ويتطلعون الى رؤية كيف يحتضن العالم أبو مازن ويتجاهلهم برغم ان لهم في غزة دولة كاملة. فهي دولة ذات حدود وجيش وصناعة صواريخ وجهاز قضاء واقتصاد وصحة. مثل دولة حقيقية. ومع ذلك كله يتحدث الجميع الى أبو مازن ويُعد الجميع له دولة ويهييء الجميع له الحسابات الضخمة.
أما هم، وهم ممثل أصيل وشرعي ومقبول للشعب الفلسطيني – فلا يوليهم أحد عناية. يخافون ان يتم الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية على نحو رسمي بأنها رب البيت في دولتهم وهذا أمر غير مقبول عندهم تماما.
قدمان فوق الدواسة
يُمكّن الاتفاق قادة حماس من الجلوس مع أبو مازن في مقعد السيارة الأمامي وفيه مقودان. هو يمسك واحدا وهم الثاني؛ قدمه فوق دواسة البنزين وقدمهم فوق دواسة الكابح.
يتحدث الاتفاق عن "حكومة خبراء متفق عليها" معناها القرار على عدم القرار: تقاسم الوظائف التنفيذية، تلك التي تُمكّن الوزراء من تعيين رجالهم في مواقع السلطة والقوة والمال، وتنتظر المرحلة الآتية، ولو من اجل تأجيل الخصومة في تقاسم الكعكة.
لكن السؤال هو من الذي يكون مسؤولا عن اجهزة الأمن لانها هي مراكز القوة الحقيقية، ولأن المسؤول عن الأمن في منطقة ما يصبح بواسطة السلاح ورخصة استعماله سيد الميدان الحقيقي. فهو الذي يقرر من يفتح عملا ومن يُعين ومن يُطرد.
في المرحلة الاولى ستظل حماس مسؤولة عن قطاع غزة ويزوره أبو مازن زيارة أدبية بعد ان يُدخل قادة حماس في السجن نشطاء الجماعات المتطرفة كي يكونوا على ثقة بأنه سيخرج من القطاع حيا. في مقابل ذلك سيحرص أبو مازن على ألا ترفع حماس رأسها في يهودا والسامرة وعلى ان يشعر قادتها الذين سيُفرج عنهم من السجن على أثر الاتفاق بالمراقبة المفروضة عليهم.
فروق عقلية
لا تفترق منظمة التحرير الفلسطينية وحماس بعضهما عن بعض في العقيدة فحسب بل – وفي الأساس – بالخلفية الاجتماعية. فمتوسط أعمار نشطاء حماس وقادتها من 30 – 40 سنة في حين ان متوسط أعمار نشطاء م.ت.ف من 60 – 70 سنة.
انه جيل مختلف. فـ م.ت.ف تمثل جيل النكبة المحنك، الذي مضى الى الجلاء وسيكتفي ايضا بانجازات جزئية. وُلد كثيرون منه في المنطقة التي نشأت فوقها اسرائيل في 1948 مثل أبو مازن الذي ولد في صفد.
ليسوا "أبناء البلد" لا في رام الله ولا في غزة بل هم اجانب لا ينتمون الى المكان. فليست لهم حمولة محلية تقف من ورائهم في كل أمر وشأن، ولهذا فهم ساسة لا قادة. أما الجيل المتوسط من م.ت.ف فهو أعرق منهم في ذلك، (فصائب عريقات ابن أريحا)، لكنهم يرتفعون على الشعب ويلبسون البدلات وأربطة العنق وسلاسل ذهبية ونظارات شمسية، وهم يدخنون السجائر ويركبون سيارات فخمة ذات نوافذ قاتمة.
في مقابلهم، قادة حماس أكثر اتصالا بسكان المكان ولا سيما اولئك الذين في مخيمات اللاجئين الذين ظلوا في الهوامش الاجتماعية والاقتصادية والسياسية منذ 63 سنة. من اولئك الذين كانوا حطابين وسُقاة لأفنديات نابلس ورام الله وغزة.
وهم الذين قضوا في السجن الاسرائيلي سنين طويلة ولا سيما بسبب بطولتهم في الانتفاضتين، وهم يفخرون بالندوب في أجسامهم لا بالبدلات التي عندهم. وهناك فرق آخر لا يتحدثون عنه مثل هيكل عظمي في خزانة: فناس حماس يمثلون على نحو أصيل سكان قطاع غزة، و90 في المائة منهم من أصل بدوي في حين ان م.ت.ف تمثل ثقافة النخبة المدنية الذكية المثقفة في مدن يهودا والسامرة.
إن كثيرات من النساء العربيات في يهودا والسامرة يُبدين شعورهن ويلبسن لباسا عصريا مغريا، في حين تُغطى نساء غزة بالجلابيب التي تخفي قاماتهن وبالخُمر على الرؤوس التي لا تدع شعرة واحدة في الريح، بل إن كثيرات منهن يضعن على وجوههن نُقبا ثخينة.
ينظر ناس الضفة من أعلى ومن بعيد الى سكان القطاع. للمنطقتين ثقافتان مختلفتان وتصوران مختلفان بل لهجتان مختلفتان. في الشرق الاوسط لا يكون الزواج بين عائلة بدوية واخرى مدنية شيئا ذا مستقبل جيد.
وهكذا يبدو ان علاقات م.ت.ف بحماس ستكون مثل علاقة المحاميين الزوجين اللذين يقضيان وقتا في جناح الفندق: يشك بعضهما ببعض ويراقب بعضهما بعضا ويبحث كل طرف طوال الوقت عما يحاول الطرف الثاني فعله لادخاله السرير غير الصحيح. سيشك قادة حماس طوال الوقت بأن أبو مازن يحادث الولايات المتحدة واوروبا واسرائيل؛ أما أبو مازن من جهته فسيحاول بلا انقطاع ان يتبين من الذين يحاول نشطاء حماس تجنيدهم في ساحته الداخلية.
وماذا عن الاتفاق؟ كنا في هذا الفيلم من قبل. كف العالم منذ وقت عن عد كم من الاتفاقات وقعت بين م.ت.ف وحماس، وهي اتفاقات تم التوقيع عليها بحبر يُمحى من تلقاء نفسه.
المثال البارز هو اتفاق مكة في شباط 2007 الذي وقع أمام الكعبة تحت ضغط مادي غير معتدل من عبد الله ملك السعودية، وكان يفترض ان يرتب هذا الاتفاق علاقة م.ت.ف بحماس بعد ان تحطمت على أثر فوز حماس بأكثر مقاعد المجلس التشريعي قبل ذلك بسنة، في كانون الثاني 2006، ورفض م.ت.ف ان تنقل لحماس صلاحيات ووظائف خلال تلك السنة.
كان رئيس الحكومة الفلسطينية اسماعيل هنية من حماس مشلول بسبب القطيعة مع اسرائيل ومعاداة الرباعية ورفض الولايات المتحدة تحت ادارة بوش الاعتراف بأن حماس كيان شرعي واحجام اوروبا عن تحويل اموال الى السلطة التي تسيطر عليها – رسميا على الأقل – منظمة ارهابية.
لم تُحل المنظمات الارهابية وأصبح العنف في الشوارع اسم اللعبة وهاج الاضطراب المالي. كان اتفاق مكة يفترض ان يحول الجهود الى الأهداف المشتركة وهي: التحرر من الاحتلال الصهيوني، وتحرير القدس، والعمل على تقديم عودة اللاجئين، والافراج عن الأسرى وابعاد المستوطنات والجدار.
اتفق الطرفان آنذاك على تعدد سياسي، وهذا تعبير حسن مغسول معناه الامتناع عن قرار على النهج السياسي التنفيذي الذي سيجري العمل به. وقررا ايضا مبدأ الشراكة السياسية ومعناها الخارجي الشراكة في اتخاذ القرارات لكن معناها العملي شلل مزدوج لطرفي الاتفاق. وكان يفترض ان تكون حكومة وحدة وطنية الجسر بين الطرفين والحلقة التي تربط بين الحصانين كي يجرا العجلة الفلسطينية في اتجاه واحد ولا يحطماها.
أفضى الاتفاق في الحقيقة الى انشاء حكومة وحدة في آذار 2007، لكن الاختلافات في النهج وفي هوية صاحب القرار جعلتها تنهار وتسيطر حماس على غزة في حزيران من ذلك العام مع القضاء على عشرات من ناس م.ت.ف بدم بارد.
الطرفان يدفعان
الاختلافات بين م.ت.ف وحماس في الأهداف وفي طرق احرازها – قائمة حتى اليوم. والفروق في التصورات العامة لم تتقلص خلال سني الانشقاق وكذلك ايضا الاتهامات والشتائم. فناس حماس لا يؤمنون بالشعارات التي يطلقها أبو مازن بأنه لن يتخلى عن حقوق الفلسطينيين، لكنهم مستعدون لأن يدخلوا مرة اخرى في اتفاق غير ملزم استجابة لطلب الجماهير في غزة ورام الله، وعقد الجسور فوق الاختلافات بسبب الثمن السياسي الذي يدفعه الطرفان بسبب القطيعة بين غزة ورام الله.
برغم ذلك، وبرغم الاتفاق، لن تستسلم اجهزة امن حماس وعلى رأسها كتائب عز الدين القسام والقوة التنفيذية لبرنامج عمل م.ت.ف أبدا ولا تفكر اجهزة م.ت.ف المسلحة حتى للحظة بالعمل بحسب املاءات تأتيها ممن يوالون حماس. سيظل ازدواج الحكم يقسم السلطة الفلسطينية برغم محاولات مضاءلة المعركة، وعندما يحين وقت تقاسم جلد الدب – ربما بعد الاعتراف الدولي بدولة فلسطينية في يهودا والسامرة وغزة – ستطفو الاختلافات على السطح وسنرى مرة اخرى كيف تتغلب الحالة الاجتماعية في العالم العربي على السياسة.
ومن اجل الاثبات فقط نقول: هل يتذكر أحد ما ان باكستان وبنغلاديش وُلدتا مثل دولة واحدة؟