تجاوبت السلطة في سوريا مع مطلب المحتجين الأساسي، إذ سلّمت مبدئياً بضرورة اعتماد الإصلاح سبيلاً لحل الأزمة القائمة. وقد أعلنت إلغاء حالة الطوارئ التي كانت محل شكوى عارمة على ما يبدو. كما اتخذت إجراءات أخرى متفرقة. ولا بدّ من طرح السؤال عند هذا المفصل: أي إصلاح هو مطلوب؟ بعبارة أخرى، أي إصلاح يتطلع إليه الشعب السوري حقيقة وهو الذي لا بدّ أن يفضي إلى إنهاء الأزمة الناشبة؟
إننا نعتقد أن الإصلاح الحقيقي الذي ينشده الشعب السوري وكذلك سائر الشعوب العربية إنما يتمحور حول تنمية الممارسة الديموقراطية. لقد أعلنت السلطة السورية تبنيها مبدأ إطلاق الحريات. وهذا أمر في منتهى الأهمية. إلا أن المطلوب أبعد من ذلك، ألا وهو تنمية الحياة الديموقراطية الفاعلة، أي توظيف الحريات في تطوير ممارسة ديموقراطية حقيقية. نحن نردد القول إن في لبنان الكثير من الحرية ولكن القليل من الديموقراطية. فلبنان في نظرنا هو شاهد بليغ على أن الحرية في ذاتها لا تكفي، والهدف هو في نهاية التحليل ترجمة الحريات ممارسة ديموقراطية صحيحة. هكذا فإن الحرية شرط لازم ولكن غير كافٍ لوجود الديموقراطية.
والممارسة الديموقراطية الفاعلة لا بد أن تتجلى على الأقل في ظاهرتين: الأولى هي في إرساء نظام فعّال للتمثيل الشعبي الصحيح في الحكم، والسبيل إلى ذلك بطبيعة الحال هو الانتخابات الحرة والنزيهة. والظاهرة الثانية هي إيجاد آليات موثوقة للمساءلة والمحاسبة على كل صعيد وفي كل مجال. أما الانتخابات فيحسن أن تطبق على الصعيد النيابي المركزي كما على صعيد البلديات عموماً. والانتخابات النيابية التي يتميز بها أي نظام ديموقراطي صحيح لن تكون وافية بالغرض كلياً ما لم تكن مقرونة بمزايا النزاهة والموضوعية وحسن الاختيار إلى أبعد الحدود. فلا تكون الانتخابات ظاهرة ديموقراطية مثلاً إذا كانت نتائجها محكومة بتدخل السلطة السياسية وبهيمنة المال السياسي. ونحن في لبنان نقول إننا نحظى بكثير من الحرية ولكن بقليل من الديموقراطية، ذلك لأننا لم نتمكن بعد من ترجمة حرياتنا الوفيرة ممارسة ديموقراطية صحيحة. فالتمثيل الشعبي في الحكم بقي مشوباً بالدور العقيم الذي يلعبه المال السياسي في الانتخابات النيابية، وكذلك بالسطوة التي تمارسها طبقة من الزعامات التقليدية على مسار العملية الانتخابية، وفي حالات كثيرة تبلغ تدخلات المسؤولين حدود التلاعب والتزوير في نتائج الانتخابات. وكان مثل ذلك غير مرة في تاريخ لبنان الانتخابي.
أما آليات الرقابة، أي المساءلة والمحاسبة على الصعيدين الإداري والمالي، فمن المفترض أن تكون ماثلة أبداً في مجلس النواب وفي مؤسسات متخصصة من مثل مجلس الخدمة المدنية وهيئة التفتيش المركزي وديوان المحاسبة. إلا أن مجلس النواب الذي يفترض أن يمارس الرقابة السياسية على مسار النظام عموماً، عبر المناقشات العامة والأسئلة والاستجوابات وطرح الثقة بالحكومة، فإن رقابته ما زالت تفتقر إلى الفعالية الحقيقية، وذلك في ظل ما يسيطر على كثير من النواب من مراعاة لأهل الحكم أو ارتباط وثيق بهم في مسعى إلى تأمين مصالح خاصة كثيراً ما تكون آنية.
لقد دبّ الفساد في بعض هذه المؤسسات في لبنان على وجه فاضح، فلم يعد للموضوعية وجود يذكر في أدائها. وكثيراً ما يكون وراء الفساد وجوه سياسية ناشطة ومؤثرة لا بل مرموقة في المجتمع. فلا غلو في القول إن الفساد استشرى في الإدارة اللبنانية على نحو عطّل إلى حد بعيد فعالية أكثر مراجع الدولة ومؤسساتها. ولم يعد سراً أنه قلما تمر معاملة في دوائر الدولة لا تقترن بثمن هو في واقع الحال رشوة. ولقد كثر الوسطاء الذين يتفرغون لتصريف المعاملات وإنجازها لحساب المواطنين في مقابل أجر هو أقرب ما يكون إلى الابتزاز. والدولة تدفع ثمن الفساد غالياً بما يفوتها من موارد وما يصيب أداءها من خلل على كل صعيد وفي كل مجال.
ويفترض بالمواطن أن يكون مبدئياً هو المرجعية النهائية والأساسية للمساءلة والمحاسبة في الدولة. فهو الذي ينتخب النائب دورياً في أقلام الاقتراع ومن المفترض ألا ينتخب أو يعيد انتخاب أولئك الذين يتورطون في الفساد ويعرف عنهم ذلك. إلا أن ثقافة المحاسبة لم تتطور في لبنان إلى حدود السيطرة على سلوك المواطنين عموماً والتحكم بقراراتهم إزاء شؤون الحياة العامة، سواء على مستوى مجلس النواب أو على صعيد المجالس البلدية والمحلية. لذا نقول إن عنصر المساءلة والمحاسبة الحيوي لن يكتمل على الوجه المبتغى إلا بوجود مواطن، أي بوجود مجتمع، يتميز بالرغبة والقدرة على المتابعة والمحاسبة بتجرد وموضوعية. ما زال لبنان، وكذلك سوريا وسائر الأقطار العربية، تفتقر إلى الحد الأدنى من روح المواطنة الصالحة والمسؤولة. وهذا يحد من رصيدها الديموقراطي إلى مدى ملحوظ.
بعبارة موجزة، فإن الديموقراطية التي نريدها لبلدنا لبنان كما نتمناها لسائر الأقطار العربية الشقيقة، لسوريا ومصر وتونس والعراق وسواها، هي تلك التي تؤمن تمثيلاً صادقاً للشعب كما تؤمن آليات فاعلة للمساءلة والمحاسبة على الصعد كافة، ولا سيّما على الصعيدين الإداري والمالي، ناهيك بالمجال السياسي. نقول ذلك ونحن ندرك أن الديموقراطية، وبالتالي المساءلة والمحاسبة، هي أكثر من نظام وأبعد من نصوص دستورية وقانونية، إنها في واقع الحال ثقافة يلتزمها الشعب وتتحكم بسلوك المواطن وتوجهاته في النطاق الخاص كما في النطاق العام. وتنمية الثقافة الديموقراطية في المجتمع هي هدف لا يمكن بلوغه في ساعة أو يوم أو سنة، بل هي مسار متشعب قد يطول ولا بدّ أن تُعبّأ لتطويره شتى الإمكانات والطاقات والجهود فكراً وعملاً على مستوى الأفراد كما على مستوى المجتمع والدولة. هذا المسار ما زلنا نحن العرب في كل مكان في بداياته. فليس من نظام عربي يستطيع أن يزعم أنه يتمتع بالديموقراطية الحقيقية. ما زالت الديموقراطية حلماً يتعين علينا أن نسعى إلى بلوغه بتصميم وعزم.
نسمع أحياناً بما يسمى ديموقراطية اشتراكية وديموقراطية ليبرالية، ونسمع بجمهورية ديموقراطية وملكية ديموقراطية، وما شاكل. في كل الحالات لا يكون النظام حقاً ديموقراطياً ما لم يتحلّ بالمزايا والخصائص التي سبق إيجازها.