على الرغم من اندثار رموز اليسار وتياره في الكيان الإسرائيلي، بعد أن دخل حزب مرتس ذاكرة التاريخ، وانسحاب باراك من حزب العمل وسير الأخير على خطا التحلل والاندثار، بعد أن كان الحزب المؤسس للكيان الإسرائيلي، فإن سعي بعض القوى اليسارية في إسرائيل، إن جاز لنا التعبير، إلى طرح مبادرات سياسية في هذا التوقيت بالذات، يشي بأكثر مما توحي به.
حكومة بنيامين نتنياهو بدأت حملة لصد ما سمته حملة التخويف من الضغوط الدولية، متهمة المعارضة الإسرائيلية بالتنسيق مع السلطة الفلسطينية، في وقت أطلق فيه نائب وزير الخارجية الإسرائيلي (داني ايالون) تصريحات بأن ما يجري هو فقاعات صابون تطلقها السلطة الفلسطينية لإرضاء ذاتها وإخفاء عجزها، وأنه في الواقع لا ضغوطات ذات أثر، فالولايات المتحدة لا تستطيع، من الناحية الأخلاقية، أن تعترف بالدولة الفلسطينية بشكل أحادي الجانب، لا الآن ولا في أيلول القادم، ودول أوروبية مختلفة في ما بينها على ذلك، وإذا اعترفت، فلن يكون اعترافاً جماعياً من 25 دولة أوروبية، وعدد من هذه الدول أبلغ إسرائيل بأنها سترفض مثل هذا الاعتراف.
في هذا السياق، خرجت مجموعة من قوى اليسار في «إسرائيل» بمبادرة للاعتراف بالدولة الفلسطينية في حدود 1967 وقررت عقد لقاء جماهيري لها في تل أبيب ودعوة الإسرائيليين إلى التوقيع على مبادرتهم، واختار المبادرون إلى هذا النشاط المكان نفسه الذي أعلنت فيه دولة إسرائيل في تل أبيب سنة 1948، وجاء الإعلان تحت عنوان (في أرض إسرائيل قام الشعب اليهودي وصاغ هويته، وفي فلسطين قام الشعب الفلسطيني وصاغ هويته)، وجاء في النص: (نحن الموقعين أدناه نطالب كل إنسان ينشد السلام والحرية لكل الشعوب بأن يرحب بإعلان الاستقلال الفلسطيني، وتقديم يد العون والعمل على تشجيع مواطني الدولتين على تحقيق السلام بينهما على أساس حدود 1967 والتسويات المتفق عليها، وإنهاء الاحتلال الكامل هو شرط أساسي لتحرر الشعبين ولاستقلال دولة إسرائيل)، وقد وقع على هذه المبادرة قائد حركة (سلام الآن) زئيف شترنهال الذي كان قد تعرض لمحاولة اغتيال من اليمين المتطرف، ووزيرة التعليم السابقة في حكومة رابين سولاميت الوني، ورئيس دائرة التعليم الأسبق في الجيش الإسرائيلي البروفيسور غابي سلومون، وغيرهم.
وأرفق هؤلاء رسالتهم بأربع خرائط تبين حدود دولة فلسطين، وكيف تقلصت من حقبة إلى أخرى – وحسب المبادرين، فإن الهدف من هذه الخطوة هو طرح بديل حقيقي لسياسة حكومة بنيامين نتنياهو، وقال البروفيسور سلومون: بدل أن تكون إسرائيل هي الدولة الأولى التي تمد اليد وترحب بالاستقلال الفلسطيني، فهي تحاول محاربته، وهذا الأمر ليس كارثة أخلاقية، فحسب وإنما من الممكن أن يؤدي إلى كارثة عملية تعزل فيها إسرائيل نفسها وتتحول إلى دولة على شاكلة جنوب إفريقية (سابقاً)، وكل ذلك بسبب الوهم بأنه يمكن الحفاظ على الاستعمار (الكولونيالية) التي هي عنصرية وغير ديمقراطية وتتعارض مع إعلان الاستقلال، وقال قائد حركة سلام الآن: إن الحكومة الإسرائيلية الحالية تمزق وثيقة إعلان الاستقلال وتدرسها في الكنيست، وهي بذلك تدوس على دولة إسرائيل والحكومة نفسها التي تدمر استقلال إسرائيل تحاول محاربة الاستقلال الفلسطيني، وجر المنطقة إلى كارثة، ونحن نرى في إعلان الاستقلال الفلسطيني انتصاراً تاماً لإعلان الاستقلال الإسرائيلي.
وقال البروفيسور يهودا باوتشر: إنه (ينطلق من وجهة نظر صهيونية التي ترى هدفها في الحفاظ على البيت القومي لليهود مع أغلبية يهودية، وإن استمرار الاحتلال يلغي الصهيونية ما يعني شطب إمكانية أن يكون شعب يهودي يعيش على أرضه مع أغلبية مؤكدة واعتراف دولي، وأنه يرى في إقامة دولة فلسطينية في حدود 1967 تحقيقا لقومية يهودية حقيقية تعيش بسلام مع محيطها ومع المجتمع الدولي).
مبادرة قوى اليسار الإسرائيلي ما هي إلا محاولة تجميلية فاشلة لتزيين وجه الاحتلال القبيح ومنحه مشروعية أخلاقية في زمن لم يتبق من شعارات التأسيس سوى كلمات لم يعد أحد يلقي لها بالاً، والقوى التي سمت نفسها يسارية لها تاريخ طويل في قمع الشعب الفلسطيني وحريته، فهل ينطلي هذا التمويه الجديد على أحد بعد اليوم!.