نحن لسنا جاهزين بعد للديموقراطية، هذا صحيح. لا للديموقراطية ولا لربعها. لا لانتخابات حرّة، ولا لتعددية حزبية، ولا لرفع قانون الطوارئ، وبالتالي التظاهر والحكي بما نفكّر، ولنبطّل قصة حرية التعبير هذه فهي تضرب كالمطرقة على رؤوس البعض. لسنا جاهزين. الوضع في بلدنا لا يتحمّل مجلس شعب ينتخب ديموقراطيا. في الحقيقة، بلا مجلس شعب أحسن. على الأقل، يمكن افتتاح جمعية خيرية برواتب أعضائه. لا عمل له، وحتى شعار عمله على مراقبة الحكومة، وسلوكيات خططها، فارغ. الحكومة نفسها، ولولا الخجل، لا لزوم لها. بعد هذا، «مما لا شك فيه» (لازمة شهيرة لموضوعية وتوازن خطاب الإعلام الرسمي) أننا لا نحتاج إعلاما حرّا. في 2006 قالت وزارة الإعلام إن قانونا «عصريا وجديدا» للإعلام، على النار، يعني قولوا أياما، ومرّت السنون…
لا نحتاج كلّ ذلك، ولسنا جاهزين له. لسنا جاهزين للديموقراطية. هذا كلام دقيق، وتغذّي صدقيته الأوضاع على الأرض. ما دامت الاحتجاجات تريد الحرية والكـرامة، وما دام نظام أمنوقراطي هو المعني بالرد على المطالب. نظام أمني يــعرف تماما أن الحــرية لا تــكون إلا بالتحرر من سطوته، والكرامة ليـست إلا التخلص من تجبّره. بالنسبة للنظام الأمني، لسنا بالتأكيد جاهزين للديمــوقراطية بالمفرّق أو بالجملة. أساســا، ما الذي يجعــله يفكّر بغير ذلك. حتى أمس قريب، نظـريا، كان بإمكانه اعتقال من يشاء، وتوقيفه من دون تهمة، وسجنه سـنوات بمحاكم استثــنائية، وباتهامات باتت فلكلور المخابرات. عمليا الأمر مستمر. فما الذي تغيّر حتى يتخلى هؤلاء عن مكتسباتهم وصلاحياتهم الشاسعة؟ احتجاجات وتظاهرات؟! لن يكون مستغربا أن نسمع أنّة تململ غاضبة من الأمنيين: آخ، فقط لو تُرك الأمر برمّته لنا. بالنسبة للأمنـيين، الوضع تمام. البلد ماشي. كان ماشيا كما يرون، وبرأيهم يمكنه أن يستمر كما كان… إلى الأبد.
لسنا جاهزين للديموقراطية، العقل الأمني الذي يعيش بحبوحة السلطة لا يتقبّل حتى سماعها. يمكن الجزم، بتصرّف، أن خطوة إعادة المدرسات المنقبات إلى الكادر التعليمي، تحتاج دراسة وتمحيصا أكثر بكثير مما يحتاجه رفع قانون الطوارئ وإطلاق قــانون الأحزاب والإعلام. فتح أبواب المدارس أمام المنقبات، بالتأكيد يحتاج دراسة أكثر من فتح أبواب السجون ليخرج معتقلو الرأي ونشطاء السياسة وحقوق الإنسان. هذا الإصلاح الرجعي، من وراءه؟ يعنينا أن يكبر أطفال وهم أمام «قدوة» على هذه الهيئة، ومن خلفها منهج التفكير والأخلاق… كل هذا يحتاج دراسة ممحصّة، علمية ونفسية وتربوية، ولا يمكن قبوله كردّ فعل «إصلاحي». هذا «الإصلاح» مشورة من؟
لسنا جاهزين للديموقراطية، العقل الأمني حاسم في ذلك. لكننا جاهزون للجان شعبية مسّلحة؟! هذا كلام يتسرّب كحقائق خفية. لا تجد الغيرة على أمن الوطن ضرورة للتعليق عليه، وشرح حيثياته إن كان صحيحا وكيف ولماذا. في ذروة احتقان يُعطي لشبان مدنيين أسلحة، ويقال: هؤلاء لجان شعبية؟ إذا كانت الحال كذلك، فلا بدّ من الإنذهال أمام عبقرية من أسدى هذه النصائح. حمل السلاح ليس لعبة، خصوصا في هذا الظرف. عناصر الأمن والشرطة، على الأقل وفي نطاق مهامهم القانونية، مدرّبون على السلاح وكيف ومتى يُستخدم. السلاح سياق معقّد، وليس من التعقّل والنضج في شيء زجّ المدنيين فيه. رغم ذلك، لا يجد المسؤولون حرجا في الصمت.
نصائح كهذه تذهب هديّة لسماسرة الجنّة، ومتعهدي إعمارها من على الأرض. ودماء الناس الشرفاء المستمرة في النزيف، بريئة منهم ومن استثماراتهم. المطالبة بالحرية والكرامة ليست استثمارا، لكن انحطاط من يريدون اقتناصها لا يقلّ عن انحطاط مسدي النصائح والحلول الأمنية. هكذا، لا يمكننا التفكير إلا في التقاء مصالح، وكل ذلك على حساب مطالب الناس الشرفاء.
لكننا جاهزون لقتل الأبرياء. أن يقتلوا بدون قضية، وأن يكون الأمر ببساطة التصيّد العبثي. هذه المراهنة على أن انطفاء حياتهم سيرهب ويطفئ الاحتجاج الشعبي، هي خلاصة عقل أمني يفوته كيف يجعل ذلك النفوس تستعر بالقهر. ينتهي الرصاص ولا يكفّ القهر عن صنع ذخيرته البشرية.
لسنا جاهزين للديموقراطية، لكن العقول الأمنية تقول إننا جاهزون لكثير غيرها. جاهزون مثلا للفتــنة. تخيّلوا! كلمة فقط في الأمس كان من المستحيل سماعها على لسان سوري. كنّا لنخجل ونشيح الوجه عمن يتلفّظ بها. لكن، لم يجد الأمنيون حرجا في أن يكونوا أوّل من يعــممها. ومع احــترامنا للغيرة على العقل، أولئك الذين ينبهوننا الآن يقولون بأن تعايشنا لم يكن سوى خدعة من السلطة.
من يروّج للفتنة، لا يريد لها سوى الرواج وأن تصير على كل لسان.. وعقل أيضا. أن يصير لها فمٌ فاغر، وحبذا أيضا عقلٌ يأخذه اللبس والاختلاط. من يمتلك الشجاعة ليقول إننا بلد تعايش رغما عن الألغام التي زُرعــت وجهّزت لمثل هذا اليوم؟ إننا عشنا حقا، وهذه حالنا: مختلفون ومهرة في العيش معا؟ أليس الأحرى، وبعدما أثبتت لنا الإدارة الأمنية والإعـلام الرسمي، أن يصير الحذر ظلّنا. أن نخشى مشهد غرفة عمليات ما، وفيها من يراقب ويبتسم لتبرع كثيرين للمشاركة في مسلسل: مدسوسين، عصابات، سلفيين. ليس الوقت للحديث ولا للتفكير بالفتنة، ومن يحمل روحه على كفه ليطلب كرامة وحرية، لن يعوزه تقويض كل إشكال مفتعل، كما أعلن أهل درعا براءتهم من شيخ مخابراتي دجّل للفــتنة، وطالبوا بتسليمه.
لسنا جاهزين للديموقراطية، طالما أن من يسأل عن مدى «الجهوزية» هم الأمنيون. مع تقارير جهوزية كهذه، لا ينفع حتى مواصلة الحديث عن شجاعة يحتاجها الإصلاح والمحاسبة: الشارع يرى ويسمع جيدا. والاحتجاج الشعبي ليس حيلة، إنه يجوهر أوضح اقتراح للحلول. أمام وضوحه، سيظهّر أن أيّ إصلاح في الظلّ الأمني، ومهما كان… هو الحيلة بعينها.