كثيرة هي المهن التي احترفها بعض أجدادنا، معظمها اضمحل وغاب في غبار الزمن، وبعضها الاخر ما زال مستمراً إلى أيامنا هذه، يتصارع مع الزمن، ومع التكنولوجيا والاختراعات، لكن، ووسط هذه الجلجلة، تبقى بعض المهن حاضرة كي تذكرنا بالماضي، واحتياجات الإنسان فيه
«سمكري البوابير»، ربما يستغرب هذه المهنة واستمرارها إلى أيامنا هذه كثيرون، لكن ما لا يدعو إلى الاستغراب هو أن «سمكري البوابير» ما زال موجوداً في مدينة صور، ومنذ خمسة وعشرون عاماً.
عادل سكماني، السمكري الوحيد الذي صمد في مهنته حتى اليوم وربما الى الغد، مُعاصراً صعودها وهبوطها، «كانت مهنة والدي وعندما انتكس صحياً قررت خوض غمارها، كان عمري يومها ثلاثون عاماً، لم تكن لدى والدي القدرة على تعليمي اياها بما لأنني كنت أجهلها تماماً، فتعلمتها خلال أسبوع بشكل نظري من شخص آخر كان يمتهنها أيضاً، وهكذا… بدأت العمل، ومنذ الأسبوع الأول تمكنت منها ولم يصعب عليّ شيئٌ من معالمها».
تصليح البوابير في ذلك الزمن كان كثيفاً، ما عكس وضعه المادي الميسور والمرتاح، الى درجة أنه كوّن أسرة من خمسة أولاد ربّاهم حتى كبروا، إلى أن حان وقت زوال أو ذبول هذه المهنة، بعد ان أصبح (البابور) من الماضي، وغير متلائم مع التطور الحاصل في أيامنا هذه.
كان عادل في الماضي يصلح حوالى خمسين بابوراً شهرياً، أما اليوم فبالكاد يصلح اثنين.
بعد حصول هذا التحوّل لم يُغيّر عادل مهنته، ويقول: «أنا أُفضّل البقاء مع هذه المهنة في ظل الوضع الحالي على أن أعمل عند الناس»، وهو الآن السمكري الوحيد في مدينة صور.
الوضع المأساوي لمهنته جعله يُفكّر بإضافات، تصليح (تلحيم) النارجيلة وصنع (منقل فحم صغير أو كبير لها)، عدا عن (القجة) لتجميع الأموال، وتصنيع ملاعق لتعبئة البوظة، وهو يعتمد كثيراً على التوصيات المسبقة ذات الكمية.
ما زال اسمه سمكري بوابير على الرغم من تركيز عمله الآن على النارجيلة، حيث يركّز اهتمامه عليها خصوصاً في فصل الصيف.
أما البوابير فقد انحصر مقتنوها في القرى، وكلفة تصليح البابور تتراوح بين 2000 ل.ل. و5000 ل.ل. واذا تم تغيير «الرأس» تصل الكلفة الى 10000 ل.ل. وهذا أقصى حد لتكلفة التصليح.
وعمّا اذا كان الهدف من تصليح البابور الحفاظ على البضاعة الأثرية واعتبارها تحفة، يأمل عادل أن يحظى بزبون وضعه المادي جيد فيعطيه مبلغاً كبيراً من المال، وفي ما خص النارجيلة، فإن كلفة تصليحها أيضاً لا تتجاوز 2000 ل.ل.
وبذلك يكون انتاجه اليومي يتراوح بين 10000 ل.ل. و 20000 ل.ل. أما كيف يعتاش عادل من هذا المبلغ فيقول:«الله بيبعت».
يداوم عادل في محله الموجود في سوق المعصرة في مدينة صور من الساعة الثالثة بعد الظهر وحتى السادسة والنصف مساءً، كل أيام الأسبوع ماعدا يوم الجمعة، ويسدد إيجار محله من خلال التحصيل اليومي، حيث تبلغ قيمة الايجار 40000 ل.ل. شهرياً.
عادل لا يُعلّم أحداً من أولاده هذه المهنة، حتى لو لم يُكملوا دراستهم، ورأيه أن عليهم اختيار مهنة أفضل من مهنته في حال وجدوا أنه لا بدّ من مهنة، على أن تكون مُتطورة، تناسب الزمن الذي نعيش فيه اليوم.