ما يدب على الأرض الإقليمية الواسعة يؤشر إلى أن المنطقة العربية تمر بمرحلة انتقالية ستقود حتماً، وعلى رغم كل أشكال التدخل الأجنبي ومحاولات إثارة الفتن الطائفية ومؤامرات التقسيم المتخيل
إلى «شرق أوسط جديد» معاد لإسرائيل، ولا علاقة له بشرق شمعون بيريس وكونداليزا رايس الذي نظَر له خلال السنوات الماضية، تسهم في تشكيله عوامل عديدة، أهمها اندلاع الثورات في عدة بلدان عربية، ولا سيما في مصر التي سرعان ما شن الساسة الإسرائيليون وصحفهم المختلفة هجوماً على توجهاتها السياسية المستجدة، بعد مراجعة الحكومة المصرية الجديدة لأسعار الغاز المصدَر إلى إسرائيل، ودعوة وزير الخارجية نبيل العربي إلى توثيق علاقات بلاده مع سورية وإيران، وتحذيره من مغبة مهاجمة قطاع غزة، وشروعه في العمل على إنهاء حالة الانقسام الفلسطيني بين حركتي «فتح» و«حماس»، ناهيك عن تداعي الحلف العسكري الإسرائيلي التركي، وانزياح السياسات التركية نحو دمشق وطهران، وذلك في مقابل ارتفاع منسوب عزلة إسرائيل الدولية بسبب مواصلتها أعمال القتل والاعتقال للفلسطينيين، وإقامة وتوسيع المستوطنات في مدينة القدس وبقية أراضي الضفة الغربية، وتسببها، تالياً، في الجمود السياسي الذي يفتح الآفاق أمام مختلف أنواع التصعيد، ويهدد الاستقرار في المنطقة.
على أن الأرضية الفعلية للواقع الإسرائيلي القلق، على المستويين الإقليمي والدولي، والذي يحمل عناوين ومعطيات عدة أبرزها وضع «شرعية» الوجود الإسرائيلي على جدول أعمال النقاش الأممي، تكمن أساساً في الداخل الإسرائيلي الذي يشهد تحولاً بنيوياً نتيجة جنوح أكثرية المجتمع نحو العنصرية والتطرف والتدين، وتالياً نحو اليمين الفاشي الديني الذي بات يتعاظم دوره في الحياة العامة وفي مؤسسات الدولة وأجهزتها التنفيذية والقضائية، بدليل تعيين أول مستشار للأمن القومي في إسرائيل يعتمر القبعة الدينية هو اللواء يعقوب عاميدور، ثم أول رئيس للشاباك، من الطراز نفسه، هو يورام كوهين، وارتفاع نسبة الضباط المتدينين في الجيش إلى ما بين 30 و40 في المئة من متخرّجي دورة الضباط القتالية في السنوات الأخيرة.
واستتباعاً، فإن ثمة تشديداً إسرائيلياً متزايداً على طابع الدولة كــ«دولة يهودية»، وارتفاع وتيرة التشريعات المطروحة في الكنيست لتأكيد هذا الطابع، من نمط قانون النكبة وقانون الولاء وقانون التجمعات السكنية، وتنامي الحملات العنصرية على منظمات حقوقية وهيئات مجتمعية يسارية، وشن هجمات شرسة على علماء الاجتماع النقديين في إسرائيل والتحريض عليهم، ناهيك عن عمليات تشديد الخناق على العرب داخل إسرائيل، وهو ما يضع إسرائيل في خضم مفارقة باتت تنعكس بوضوح في مرآة الإعلام المفتوح على مصراعيه في أنحاء العالم كافة، وجوهرها أن هذه الدولة التي أشيع بأنها «الديمقراطية الوحيدة في الشرق الأوسط»، وأنها «امتداد طبيعي للغرب في الشرق الديكتاتوري المظلم»، تشكل أنموذجاً ومثالاً وحاضنة لقوى التطرف والعنصرية والفاشية الجديدة، وتتحالف مع جماعات التطرف اليميني في أميركا وأوروبا، في مقابل توجه الدول العربية، بخطا متسارعة، نحو آفاق جديدة من الحرية والديمقراطية التي تضع إسرائيل أمام معضلات وجودية غير مسبوقة.
ووفق رزمة المعطيات التي تتوالى تباعاً، فإن الحكومة الإسرائيلية الائتلافية اليمينية التي لم تخف خشيتها من تداعيات «الزلزال العربي» على المديين المتوسط والبعيد، والتي تتقاطع في خضمها عدة عوامل، أبرزها التعويل الكامل على القوة والقدرة العسكرية، وهيمنة السياسة الداخلية على السياسة الخارجية، وغياب الرؤية الموحدة لكيفية التعاطي مع مستجدات الصراع واستحقاقاته، بصدد بلورة حزمة من التوجهات والرؤى التي تمكنها من التعاطي مع المستجدات الوازنة التي يشهدها الشرق الأوسط، إذ يجمع السياسيون والعسكريون الإسرائيليون، من الائتلاف الحكومي والمعارضة، على «ضرورة استعادة قوة الردع» التي تهتكت بعد عدوان تموز 2006 على لبنان، وبعد العدوان على غزة أواخر 2008، ما يعني افتراض سيناريو المواجهة بوصفه إمكانية حقيقية يمكن أن تترجم على الأرض في المستقبل المنظور، انطلاقاً من التقدير بأن التطورات الإقليمية المقبلة ستكون مشبعة بالمخاطر التي ستتأتى عن شكل وطبيعة الأنظمة العربية القادمة. ولعل الملمح الأبرز لهذا التوجه هو ضخ المزيد من الأموال في الميزانية الأمنية الإسرائيلية، واستجابة الإدارة الأميركية جزئياً لمطالب الدعم العسكري عبر تصديقها على قانون الميزانية لسنة 2011، الذي يشمل تقديم مساعدة عسكرية استثنائية للدولة العبرية.
وعلى الرغم من أن القلق الإسرائيلي يبدو من طراز جديد هذه المرة، إلا أن التعبير عنه مازال يتكئ على الوسائل والأساليب العتيقة ذاتها، وفي مقدمها تضخيم حجم الأخطار التي تحيط بالدولة العبرية، وإطلاق المواقف المتطرفة والتهديدات والحديث عن أهداف ستُقصف في المواجهة المقبلة مع الأعداء، فضلاً عن إجراء، أو إعلان إجراء، مناورات وتدريبات «نوعية» استعداداً للحرب المقبلة. أما الجديد هذه المرة فهو الحديث الإسرائيلي عن تطورات الساحة الداخلية السورية، وتأثير ذلك في تل أبيب التي تتابع بترقب شديد ما يحدث. ويزعم أحد التقديرات التي عبَر عنها رئيس الدائرة السياسية والأمنية في وزارة الحرب عاموس غلعاد، أن ما يجري «سيدفع القيادة السورية وحلفاءها إلى نقل المعركة والاهتمام نحو إسرائيل». إذ «يمكن لسورية، وعبر «حزب الله»، أن تلتفّ على أزمتها وتصوّب نحو إسرائيل»، وهذا ما زعمته أيضاً صحيفة «هآرتس» التي شددت أخيراً على أن «الأزمة في سورية قد تؤثر في الوضع الاستراتيجي للدولة العبرية، إذا لجأت دمشق إلى مغامرة خارجية، لتخفيف الضغط عليها في الداخل»!
وعليه، كان من الضروري أن تسعى إسرائيل إلى إثارة الغبار وتوجيه رسائل التخويف المعهودة إلى كل من يهمه الأمر، وأن تعيد تشغيل الأسطوانة المشروخة حول «قدرة وجبروت» الآلة العسكرية التي دعمت، أخيراً، بمنظومة «القبة الحديدية» الباهظة الثمن. ولإضفاء صدقية ما لهذه التهديدات فقد جرى تمريرها عبر صحيفة «واشنطن بوست» التي أشارت إلى أن إسرائيل تملك بنك أهداف لـ«حزب الله» ستعمد إلى ضربه في أي مواجهة عسكرية مقبلة، لا بل وزّعت هذه الأهداف بطريقة مدروسة، على خريطة نشرتها الصحيفة الأميركية، وضعت في قرى ومدن تقع إلى الجنوب من نهر الليطاني. وتظهر الخريطة، ما تزعم إسرائيل بأنها نقاط التخزين التابعة لـ«حزب الله»، أكثر من 550 نفقاً محصناً، و300 موقع مراقبة، إضافة إلى 100 موقع لاستخدامات مختلفة. وحسب الصحيفة الأميركية، فإن القيادة العسكرية الإسرائيلية، وعبر نشر هذه الخريطة، تحاول تجنّب أي انتقاد دولي في حال قامت بمهاجمة أحد هذه المواقع، التي تقول إسرائيل إن معظمها يقع في قرى سكنية وقرب مستشفيات ومدارس ومنازل مدنيين.
بيد أن ما سبق لا يحجب حقيقة الخوف والرعب الإسرائيليين من واقع «توازن الرعب» الذي تكرَس خلال عدوان تموز 2006 وما بعده، والذي وصل إلى حد مطالبة أمين عام الحزب السيد حسن نصر الله المقاومين اللبنانيين بالاستعداد لتحرير مناطق في شمال فلسطين المحتلة في حال قيام إسرائيل بأي عدوان واسع على لبنان. ووفقاً لما كشفته وثائق ويكيليكس، فإن قادة جهاز الموساد الإسرائيلي أخبروا زملاءهم الأميركيين بأن «حزب الله» سيمطر إسرائيل، في الحرب المقبلة، بما بين 400 و600 صاروخ يومياً، وأن مئة منها ستسقط في تل أبيب. وشدد هؤلاء القادة على أن سيناريو الحرب المقبلة يقوم على قدرة «حزب الله» على إطلاق هذه الصواريخ لمدة شهرين.
في كل الأحوال، يمكن الاستخلاص بأن ثمة مأزقاً تاريخياً تعيشه إسرائيل، في ظل تآكل ما تسميه «مناعتها القومية»، وتراجع دورها وتأثيرها تحت ظلال عوامل مستجدة، من نمط سقوط نظام مبارك وتفكك ما يسمى «محور الاعتدال» العربي، وأزمات سياسية واجتماعية واقتصادية عديدة سبقت الإشارة إلى بعضها، ما يفتح الباب أمام رزمة من الخيارات العسكرية والدبلوماسية التي يمكن الهروب باتجاهها، بما في ذلك إمكانية شن عدوان جديد «محسوب النتائج» على قطاع غزة، بهدف خلق أزمة جديدة، وصرف الأنظار عن جهود المصالحة الفلسطينية، وخلط الأوراق وإرباك الحسابات لدى مختلف الأطراف الإقليمية والفلسطينية التي آن لها الخروج من مربع رد الفعل إلى ساحة المبادرة والفعل التي توفرها البيئة الإقليمية المستجدة.