منذ بدء اهتزاز كرسي العرش تحت «مقعدة» الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك، والأخبار تتواتر عن عروض من عدة دول خليجية لدعمه واستضافته، حضر أحد الوزراء الخليجيين قبل سقوط مبارك بأيام قلائل، ونشرت العديد من وسائل الإعلام وقتها أن الوزير عرض على مبارك تقديم كل الدعم له مقابل استغنائه تماما عن المعونات الأميركية بعد تحول بوصلة واشنطن في اتجاه تغييره، فضلا عن عرض مفتوح من بلد الوزير نفسه باستضافة مبارك في أي وقت يرغبه. وبعد نجاح الثورة في الإطاحة به ولملمة أغراضه إلى حيث القصر المنيف في شرم الشيخ، ذكرت تقارير إعلامية أيضا أن مسؤولا خليجيا كبيرا يرتبط مع الرئيس المخلوع بعلاقة صداقة زاره في مصر وعرض عليه قصرا أكثر فخامة على شاطئ مدينة ساحلية هادئة في بلاده.
ثم وبعد مطالبة المصريين بضرورة محاكمة مبارك عما اقترفه من جرائم في حقهم طوال 30 عاما، قرأنا عن ضغوط خليجية على القاهرة لمنع هذه المحاكمة، مع استخدام سياسة «العصا والجزرة».. تهديد بترحيل العمالة المصرية بموازاة عرض مغر بتسديد ديون مصر مقابل عدم مساءلة مبارك. وإذا كان سفير خليجي بالقاهرة نفى مثل هذه الأنباء فيما يخص بلده، وهو نفي معتاد على كل الأحوال، فإن واقع الحال ينبئ بشواهد على وجود مثل هذه الضغوط، فمن يطالع صحف عدة دول خليجية سيجدها تعج بمقالات لكتاب كبار معروف مدى صلاتهم بالمسؤولين والنافذين في بلادهم، يتحدثون فيها أن مصر بعد الثورة لا تعرف التسامح، وأنه من الواجب احترام الرموز، وذكر بعضهم أن جمال عبدالناصر بعد نجاح ثورة يوليو 1952 لم يحاكم الملك فاروق، وتركه يرحل في أمان إلى أوروبا.
أما الجدل الذي صاحب الجولة الخليجية لرئيس وزراء «مصر الثورة» الدكتور عصام شرف، وهي الأولى له التي كان مقررا أن تبدأ أمس الأحد وتأجلت إلى اليوم الاثنين، بعد أنباء عن إلغائها تماما أو تأجيلها بحسب اللهجة الدبلوماسية، فإنه يصب أيضا في جهة وجود «غيوم» في العلاقات لم تستطع شمس الخليج الملتهبة أن تزيلها، خاصة أن خبر الإلغاء أذيع بعد وصول الوفد الإعلامي المصري والحرس الخاص برئيس الوزراء إلى المحطة الأولى في الجولة. ترافق مع ذلك التقارير التي تحدثت عن رفض إحدى الدول في اللحظات الأخيرة زيارة «شرف»، وأرجعت مصادر هذا الرفض إلى ما اعتبرته هذه الدولة «تقاربا مصريا-إيرانيا» على حساب مصالح دول الخليج، فضلا عن رفض حكومة الثورة المصرية طلبات متكررة من بعض هذه الدول بعدم محاكمة مبارك وعرضها دفع أية تعويضات مناسبة بدلا من محاكمته.
لو صحت هذه التقارير فنحن أمام وضع علاقات بين دول وشعوب رهينة لـ «علاقة فردية» مع حاكم مخلوع متهم فعلا بارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وبشأن تلويح مصر ما بعد مبارك بإقامة علاقات مع إيران قد تكون -بحسب اعتقاد بعض الخليجيين- على حسابهم، فإنني أذكر بمفارقة ربما غابت عن أذهان من يتحدثون عن «مبارك الرمز» ونقاء عصره، ومن يرددون مخاوف بسبب التقارب المصري الإيراني. لن أتحدث عن خصوصية كل دولة في شؤونها الداخلية وطريقة تعاملها مع «أحد مسؤوليها» السابقين المنسوب إليه عدة اتهامات وتوفير محاكمة عادلة له أمام القضاء العادي وليس الاستثنائي مثلما كان شائعا في عصره، ولا عن حق هذه الدولة في إقامة أو قطع علاقاتها مع هذا البلد أو ذاك، لكنني سأشير فقط إلى أمر واحد كانت الدول التي تحفظت على زيارة «شرف» بسبب «مبارك» و «إيران» طرفا فيه. حينما ضرب الزلزال الشهير مصر عام 1992 تبرعت معظم دول الخليج مشكورة -مثلما هي عادتها دائما- بعشرات ملايين الدولارات لمنكوبي الزلزال، غير أنها اكتشفت بعد فترة أن هذه المساعدات لم تذهب إلى مستحقيها بل تحولت إلى حسابات و «كروش» مسؤولي النظام. عرف الخليجيون أن المنكوبين ظلوا سنوات في العراء، وتأكدوا أن مبارك ومسؤوليه «يأكلون مال النبي» دون أن يتحرك لهم رمش، ولذلك رفضت هذه الدول بعد ذلك أن تتبرع بدولار واحد حينما وقعت كوارث السيول في مصر قبل سنوات، وعرضت في حركة ذكية أن تقدم مساعدات عينية من أدوية وأغطية وخلافه، بل واشترطت أن يقوم مندوبون عن سفاراتها بتوزيع هذه المساعدات!
إذن أدركتم أن مبارك يقود نظاما فاسدا من شعر رأسه حتى أخمص قدميه. أما بخصوص التقارب مع إيران، فلعل القاصي والداني يعلم أن معظم دول الخليج لها سفراء في طهران، فضلا عن أن العلاقات الاقتصادية بين الإمارات -التي تشكو باستمرار من الاحتلال الإيراني لجزرها الثلاث- تزداد نموا يوما بعد الآخر مع «نظام الملالي».
أرفض أسلوب المن الذي كان يردده إعلام مبارك عند أول أزمة مع أي دولة خليجية، والمعايرة بأن المصريين هم من علموا الخليجيين وأفادوهم في نهضتهم منذ ظهور النفط، كما أستهجن نظرة الاستعلاء التي يمارسها بعض أصحاب الأعمال بالخليج على أشقائهم المصريين ومعاملتهم بسوء، فالواقع يقول إن كلا الطرفين استفاد من الآخر، وأن تقاربهما يمثل مصلحة قومية مشتركة. وقد ضرب حضرة صاحب السمو الشيخ حمد بن خليفة آل ثاني أمير البلاد المفدى أروع الأمثلة على الوفاء بقدومه إلى القاهرة وتقديمه واجب العزاء في أحد رواد نهضة التعليم في قطر، كما لا ينسى كثيرون من أهل الخليج أن مصر كانت أحد عوامل الثروة الهائلة التي هبطت على منطقتهم بعد ارتفاع أسعار البترول لأرقام قياسية خلال حرب أكتوبر، فضلا عن أن المسؤولين المصريين الجدد يؤكدون دائما أن «عروبة الخليج» خط أحمر بالنسبة للقاهرة.
الواقع يقول إن مصر بحاجة للخليج، والخليج بحاجة لمصر، وليتذكر كل الإخوة هناك أن مصر «جديرة بكل دعم» بحسب تعبير السفير القطري في القاهرة صالح عبدالله البوعينين، فالمؤكد أن خروج مصر من الفترة الانتقالية الحالية سليمة معافاة يشكل إضافة للرصيد العربي، فقوة «القلب» كفيلة بمد الدماء إلى شرايين كل الأطراف!