تظاهرات التفكّك

تنهش الطوائف الدولة، من تقاسم السلطة والمؤسسات إلى الاستيلاء على الأملاك العامة. لا تملك الدولة كشخص معنوي أي موقع يدافع عنها. الرئاسات تريد حصصها وزعماء الكتل النيابية. اعتاد الناس الفراغ واعتادوا نظام التسويات المتلاحقة والصلح العشائري.
منذ ثلاثة عقود استولى أصحاب النفوذ على الأملاك العامة البحرية وما زال هذا الملف خارجاً عن المعالجة. هكذا يكون من حق فئات أخرى أن تستولي على المشاعات والأملاك العامة، فهذه «الدولة» ليست شرعية، وهذه السلطة لا تقيس الأمور بمعيار واحد. وهذا نظام يرضخ للأقوياء وللأمر الواقع في كل شيء. يتلاشى الحكم المركزي أمام نفوذ الطوائف. تتحوّل المواقع الدستورية والمؤسسات والوظيفة العامة إلى ملكيات خاصة. تستأثر الجماعات بقضايا وملفات تخص اللبنانيين وتجعل منها حقائب خاصة بها. يذهب الفكر الليبرالي إلى حد القول إن الدولة من أساسها قيمة مضافة يمكن للمجتمع وللمبادرة الفردية أن يعملا بوجودها أو بدونه. قيل هذا الكلام من شخصية سياسية «مثقفة» بارزة على الشاشة الصغيرة.
خلف ظواهر التفكّك هذه فلسفة كاملة اجتماعية تقوم على ضمان المصالح الاقتصادية المستأثرة بخيرات البلاد ومجموعة من الامتيازات الطائفية التي توزع على نخب ضيقة لحراسة هذا النظام. ما هو مشترك بين الطوائف المتنازعة أكبر بكثير مما تدعي من خلاف وتباين. ليس من تيار سياسي طائفي يملك مشروعاً للبنان مهما كانت اللافتة التي يقف خلفها و»القضية» التي يدافع عنها. لا قيامة للبنان بدون مشروع الدولة، ولا دولة يمكن أن تنهض على أهواء ورغبات تيار سياسي طائفي. تمارس هذه الطبقة السياسية فعل التدمير المنهجي للروابط والمشتركات بين اللبنانيين وتقوم على فرز قضاياهم إما تحت عناوين كبرى لا طاقة لهم على معالجتها كالانخراط في النزاعات الإقليمية، أو هي تجعل من عناصر حياتهم اليومية وحاجاتهم وخدماتهم مادة للتحريض الطائفي المقيت. ولا يكاد الجمهور يخرج من مفاجأة حتى يدخل في أخرى من تقلّب السياسات والتحالفات التي حوّلت «اللبننة» إلى لون من الانتهازية غير المسبوقة. تموج الوطنية وصفاتها وألقابها حسب مقتضيات المصلحة الآنية ويتصالح المتخاصمون على ما يزعمون أنه تهديد لوجودهم الطائفي. لكن الأخطر من هذه اللعبة إدارة الظهر لتحديات صارت في أمر اليوم وتجاوزت لبنان إلى محيطه وشغلت من يعنيهم الأمر عن لبنان بوصفه قيمة بذاته أو قطعة من خريطة أوسع وضعت على مشرحة إعادة التشكيل كيانات وأنظمة.
تغامر الطبقة السياسية بترك لبنان مكشوفاً أمام موجة التغيير التي اجتاحت العالم العربي. إذا كانت الدول المركزية القوية انشرخت بأحداث سياسية وأمنية فمن غير المعقول الاستهانة بحجم الخطر على مجتمع منقسم تديره مؤسسات الطوائف. إن أشكال التضامن الاجتماعي التي حافظت على حد من تماسك الجماعات أشرفت على استنفاد دورها أمام حاجات اجتماعية متنامية وظواهر تخرج عن النظام العام والضوابط السابقة. ونكاد نلمس بوضوح تراجع هيبة كل المرجعيات على جميع المستويات أمام طوفان الفردانية الباحثة عن أمن وأمان مفقودين وعن رعاية أو حاضنة مجتمعية. ولعل ظاهرة التماثل السياسي والتنافس على تشكيل عصبيات منظمة ومـسلحة شـارفت علـى استكمال عدتها لمواجهات أهلية. فإذا كانت سلطة الدولة قد بلغت هذا المستوى من الهشاشة والهزال فلا ندري ما الذي يستطيع أن يكبح ظاهرة العنف السلفي المعنوي التكفيري أو المادي القتالي.
لم نجد حتى هذه اللحظة ردة فعل جدية فاهمة أو مدركة لأبعاد الحراك العربي الذي تداخلت فيه عناصر الداخل والخارج وطفت على سطحه نزاعات عربية عربية واخترقته دعوات مذهبية كأننا في مسار معقد لخلط الأوراق انغمست فيه الدول والشعوب من دون استثناء للانتقال من أنظمة الأمن المركزية إلى أنظمة التعددية السياسية الطوائفية سواء اتخذت أشكالاً كيانية أو كيانات حقوقية أو واقعية. ولطالما صارت لغتنا في عموم هذه المنطقة أقرب إلى لغة الفرز من لغة الجمع ولغة الفتنة من لغة القضايا الوطنية. لم تكتشف البشرية عامة حتى الآن مخرجاً من «الصراعات» على تنوعها أفضل من فكرة الدولة، ولم ينجز العرب حتى الآن مشروع الدولة التي تحمل عناصر الاستقلال الإيجابي عن نزاعات المجتمع. بهذا المعنى تحاول القيادة التركية الراهنة تقديم النصح للإفادة من تجربتها من دون استنساخ برغم ما يعتري هذه التجربة من ثغرات واضحة. على الأقل هناك بعض عناصر النجاح من التعايش بين ثقافة الشعب الإسلامية ومحرّضاتها وبين البنية القانونية والدستورية التي تحتوي هذه المحرّضات وتضعها تحت سقف المؤسسات السياسية المستقرة. أهمية هذه التجربة أنها لا تقمع ثقافة المجتمع ليناهض الدولة بل تتصالح معه وتقوي ثقافة المواطنة وتزيد مساحتها كقاعدة للدولة. هكذا تصير الدولة هوية المجتمع الغالبة ولا تعود سلطة غريبة عنه. لا نفترض نموذجاً صالحاً يستورده العرب لكننا نلفت إلى فشل النموذج العربي الذي يزعم أن الدولة بديلة عن المجتمع وأن حزب الدولة يخلق للمجتمع هوية أو ثقافة أو معنى إيديولوجياً مختلفاً. وقد كان اللبنانيون سبّاقين في تفكيك ظاهرة الدولة ذات المركز أو النواة الطائفية. لكنهم بأسف تعرّبوا سياسياً فاستجلبوا لأنفسهم مفاهيم سلطانية وشرعيات دينية ومذهبية للدولة لم تكن في تراثهم التاريخي الحديث.
هذه النكسة إلى نظام «الملل» العثماني تأخذ أبعاداً تدميرية مع مدّها بمغذيات دينية. فلم يسبق أن شهدنا من نصف قرن هذا الخطاب السياسي المذهبي الذي يتعامل مع الناس بمفردات عقيدية. هذه النقلة من الطائفية العصبية السياسية القبلية إلى العصبية الدينية لم تكن يوماً مثلها في الماضي حتى في القرون الوسطى.
نفهم كيف تعايشت البورجوازية اللبنانية من كل الطوائف مع الفكر الطائفي التحاصصي السياسي، لكن أن تخضع اليوم لهذا المناخ من الثقافة الظلامية التي تحوّل السياسة إلى صراع مقدسات فذاك أمر آخر. لعل هذه الطبقة السياسية في مأزق نظامها يمكن أن تدرك الفارق بين حروب الطوائف وحروب الأديان وتفهم أن تصالح الطوائف مع ذاتها ليس مخرجاً لمجتمع تعددي عصابي لا يستقر إلا في بيئة المواطنين المتساوين الأحرار.

السابق
التسلح في لبنان على قدم وساق!
التالي
جنبلاط يطالب معالجة جميع المخالفات