العروبة: هوية أوطان وأمة

الرابطة التي تشدّ الأقطار العربية كافة تسمى العروبة. إنها إيمان، يتمسّك به القوميون العرب، بأن العرب أمّة واحدة تنتشر على امتداد رقعة جغرافية تترامى من المحيط الأطلسي إلى الخليج العربي مروراً ببلدان شمال أفريقيا. هذه الأمة تنتظم حالياً في نحو 22 دولة ذات سيادة وطنية. إلا أن شعوب المنطقة تدرك تمام الإدراك أن الجامع بينها أواصر قومية أهمها لغة مشتركة هي اللغة العربية، وثقافة مشتركة وتاريخ مشترك كان له فعل مشهود في صنع تاريخ العالم، مسهماً بنصيب لا ينكر في التمهيد لبزوغ فجر العصر الحديث بمزاياه الحضارية والإنسانية.

العروبة إيمان بالوحدة، ولو أن الوحدة بقيت في حدود الحلم الذي لم يبلغ حيّز التطبيق، اللهم إلا في صيغة واهية تسمى جامعة الدول العربية. الجامعة تجمع شكلاً بين دول تتشبث بسياداتها، إلا أنها بقيت قاصرة جداً في التعبير عن حلم أبناء الأمة، الذين يسمون أنفسهم قوميين عرباً. فهؤلاء يصرّون على تحقيق الاتحاد بين الشعوب العربية ومن ثم الوحدة الناجزة مع التمسّك بمعادلة اللامركزية الإدارية إلى أبعد مدى من دون المساس بهدف الوحدة السياسية القومية. الحلم قد يبدو اليوم بعيد المنال في ظل ظروف عربية من شأنها تعميق أسباب الفرقة وإبراز التباينات والخلافات بين أنظمة المنطقة ودولها، وكذلك في ظل سطوة قوى دولية تهيمن إلى حد ملحوظ على مجريات السياسة الدولية وتتحكم ولو آنياً بمصير الشعوب والأمم. هكذا تبقى العروبة في مضمونها وتطلعاتها حلماً يدغدغ إرادة أبناء الأمة، إلا أن هذا الحلم يبدو لدى فريق القوميين العرب في منزلة العقيدة التي يتلاقون عند التطلع والعمل لتحقيقها مهما طال الزمن ومهما انتصب في الطريق من عقبات ومعوقات وتعقيدات لا بل ومؤامرات.

فليس خافياً أن بين القوى الدولية المهيمنة قوى ليس لها مصلحة في أن ينهض العرب إلى المستوى الذي يجعل منهم قوة فاعلة على الساحة الدولية. وفي مقدم هذه القوى دول غربية رهنت سياساتها وتوجهاتها لنصرة عدو العرب المركزي، أي الكيان الصهيوني: إسرائيل. والدولة الصهيونية تدرك بلا أدنى ريب أن وحدة العرب من شأنها تهديد الكيان الصهيوني في سلامته وعافيته وحتى في وجوده. هذا مع العلم أن إقامة الكيان الصهيوني وسط الوطن العربي كان تجسيداً لما استهدف الأمة العربية في واقع الحال من ظلم متمادٍ وافتئات على حق شعوب الأمة في الحرية والسيادة والوحدة. فكان في إنشاء الكيان الصهيوني منتهى التمادي الدولي في العدوان على الأمة العربية خروجاً على أبسط مبادئ العدالة والحق والموضوعية. فلا غلو في القول إن الأمة كانت في فلسطين هدفاً لمؤامرة لا أعتى ولا أقسى. ولقد جعلت قضية فلسطين من العروبة أكثر من عقيدة قومية، إذ أضحت حركة نضالية جهادية لا تنتهي إلا بتحرير فلسطين من الاحتلال الغاشم.

نقول تحرير فلسطين ولا نتحدث عن مشروع حل يقوم على تسوية متسرّعة حتى لا نقول ركيكة. هناك ما يعرف بالمبادرة العربية أو المشروع العربي للحل. فالدول العربية للأسف الشديد سارعت إلى تبني هذا المشروع الذي يترجم بدعة إقامة دولة صهيونية على أرض فلسطين العربية ضمن حدود عام 1967 على أن تكون القدس الغربية، أي معظم المدينة المقدسة، عاصمتها. هكذا عمدت الأنظمة العربية إلى تحجيم الحلم العربي من دون أن تفوز برضى الكيان العنصري الصهيوني. فإسرائيل لم تتقبل هذا المشروع اللقيط بعد، ولا يبدو أن الدول الكبرى، وفي مقدمها الولايات المتحدة الأميركية، مستعدة لتقبّله والضغط على إسرائيل لقبوله وتبنيه. وهذا في نظرنا لحسن الحظ من الوجهة القومية العربية. لعل مشروع تقسيم فلسطين كان سيتحقق بكل ما ينطوي عليه من جور وافتئات على حقوق العرب، لو أن العدو الإسرائيلي ارتضاه وسارت في ركبه سائر دول العالم الفاعلة والنافذة.

نحن من القوميين العرب الذين يرفضون قطعاً أي مشروع مصطنع لتقسيم فلسطين وبالتالي مشروع إقامة دولة فلسطينية ضمن حدود عام 1967. فنحن ندعو إلى تحرير فلسطين وإقامة دولة فلسطين العربية على أرضها ريثما يتحقق مشروع الاتحاد العربي ومن ثم الوحدة المنشودة. أما التذرع بأن هذا المشروع بعيد المنال في الظروف الإقليمية والدولية القائمة فلا يستقيم مع حق العرب البديهي والمبدئي في إقامة كيان عربي في فلسطين يضم جالية يهودية إذا ما قرر اليهود المقيمون في فلسطين حالياً، أو ربما بعضهم، البقاء حيث هم الآن. نحن بالطبع لا نأخذ بمقولة إقامة دولة عربية في فلسطين وقذف اليهود في البحر. فالذين يرومون الإقامة في فلسطين منهم بعد قيام الكيان العربي فليكن لهم ذلك. لنذكر أنه قد لا تكون ثمة دولة في العالم في العصر الحديث إلا وتضم جاليات أو أقليات من غير أهل البلد الأصليين. والوضع في بلدنا لبنان شاهد على ذلك. فالأقليات في لبنان متعددة ولها شأن يذكر في مسار الحياة السياسية والاجتماعية والاقتصادية والثقافية فيه.

الهدف الأسمى للحركة القومية العربية هو الوحدة، إلا أن اعتبارات الواقعية تملي شيئاً من التدرج، كأن يكون العمل أولاً على تحقيق اتحاد عربي فدرالي، على أن يكون الهدف الأبعد عقب ذلك تحقيق الوحدة الناجزة، ولو مع الاحتفاظ بصيغة اللامركزية الإدارية الموسّعة، وذلك ضماناً لحسن إدارة الوحدة على الوجه الذي يؤمن مصالح الشعوب الحيوية واستقرارها.

ختاماً، نحن نلتزم عروبة لبنان بما تقتضيه من فكر وعمل ونسج علاقات. إلا أننا انطلاقاًَ من التزامنا النهج الديموقراطي في الحياة العامة نحترم كل الاحترام العقائد السائدة الأخرى، من مثل العقيدة القائلة بلبنان وطن نهائي لأبنائه، والعقيدة القائلة بالقومية السورية التي تدعو إلى مشروع سوريا الكبرى، والعقيدة الشيوعية التي تنادي بتعميم المساواة بين المواطنين وإشاعة أسباب النمو على صعيد يتجاوز حدود الوطن والأمة، والتفاعل بين هذه المدارس جميعاً في بلد حر ديموقراطي هو بلا شك ظاهرة صحية وطبيعية. ونحن من الذين يتبنون القومية العربية، على أن تكون العروبة هي الهدف والمرتجى، وفي نهاية التحليل الضامن الأكيد لمصلحة لبنان الشعب والوطن والمواطن. هذا مع الملاحظة أن أولئك الذين يتبنون عقائد تغاير العروبة إنما يجد كثيرون منهم مصالحهم عملياً في الهجرة إلى أقطار عربية أخرى للعمل فيها طلباً للرزق الحلال. وهم هناك على الرحب والسعة.

السابق
علوش: بري نصّب نفسه ملكاً على المجلس
التالي
“نيويورك تايمز”: جدل في واشنطن حول مسودة لخطة “سلام” أميركية