كتاب أحمد بيضون «رياض الصلح في زمانه» بمثابة تاريخ للعهد الاستقلالي في لبنان، لكنه أيضاً هذا العهد الاستقلالي في محيطه وزمانه، أنه ما أنتج بين النضالات الاستقلالية وبخاصة بين لبنان وسوريا اللتين يقع رياض الصلح اللبناني السوري عند نقطة تقاطعهما. إنه أيضاً حرب فلسطين وتأسيس الجامعة العربية ثم انه تكوين لبنان على الصورة التي ارتسمت له بعد ذلك. بما فيها من مشادات طائفية وغير طائفية. نجد هنا البذور الأولى للسباق الديموغرافي والتوجس الديموغرافي. كما نجد هنا، وفي شخصية رياض الصلح بالخصوص واما تجاذب لبنان حتى نهايات الحرب الأهلية الحالية من لبنانية وعروبة وسورنة. سيكون رياض الصلح لذلك مؤسساً حقيقياً للبنان الحالي. بل هو الأكثر جدارة بهذه الصفة، لقد أوجد الجسر بين الهويات الثلاث بقدر ما أوجد الميثاق التأسيسي اللبناني.
كتاب أحمد بيضون هو هذا التاريخ الذي تتقاطع فيه دوائر لبنانية وعربية واقليمية ودولية. بيد أن هذا التقاطع لم يؤثر البتة على إشراق الأسلوب وسلاسته، وهذا التشابك لم يجعل بنيان الكتاب شائكاً فهو كان يرتفع لبنة ولبنة ويتكامل ويتسق بحيث إن «رياض الصلح في زمانه» عمارة حقيقية فيها من السرد ما فيها من التحليل ومن التشعب ما فيها من الوحدة. كتــاب أحمد بيضــون يرينا من قريب أن للبنان تاريخاً وانه تاريخ اولاً لا جملة ملاحم دمويــة متتابــعة متسلسلة، ويكمن لكتاب في نزاهته وقوته ان يكون أيضاً تأسيــسياً لكتابة تاريخ للبنان لا يضيع في مطالب طوائفه وصراعاتها.
÷ إضافة إلى التكليف وما فوق التكليف، ما هو الدافع لدراسة شخصية كرياض الصلح؟
} أولاً لديّ دافع شخصي هو الرغبة بالتجريد. فأنا احب أن ادخل إلى نوع كتابي جديد لم يسبق لي ممارسته. وهذا النوع الآن هو محاولة وضع سيرة. ثانياً يوجد أيضاً دافع مهني، مفاده أنني لما ابتدأت بالاهتمام برياض الصلح منذ أواسط التسعينيات (1995-1997) وُضعت بتصرفي محفوظات هي عبارة عن قصاصات صحف. وكان يبدو ان هذه القصاصات بذل عليها جهد مضنٍ سواء في جمعها ام في نسخها، ويبدو انها أخضعت لبرنامج تقني حاسوبي، في وقت لم يكن شائعاً هذا بين الناس آنذاك. وهذه ببساطة تشكل إغراء كبيراً لباحث سبق له ان اهتم بتاريخ لبنان. وقد بذلتُ لاستكمال هذا البحث مدة سنة ونصف متواصلة، إضافة إلى مساعدين عديدين في ورشة البحث. ثم ان هذه الوثائق تتناول رجلاً من رجالات لبنان وتشكل قاعدة معلومية غنية تستحق العناء خاصة انني أضفت لها بعض وثائق المحفوظات البريطانية والفرنسية التي تعنى بلبنان وتتعلق بمرحلة رياض الصلح وتطال تقريباً النصف الأول من القرن العشرين.
جمعنا آلاف الوثائق المنظمة، وفي الوقت نفسه سعيت لجمع وتكوين مكتبة صغيرة متخصصة بالموضوع. اما فيما يتعلق بالصحف وبتصوير الكتب المتعلقة بالموضوع وغير الموجودة في المكتبات التجارية كنا نعتمد أساساً على مكتبتي الجامعة الأميركية والجامعة اليسوعية واحياناً على غيرهما. كذلك اعتمدنا على مؤسسة المحفوظات الوطنية التي صورنا منها محاضر مجلس النواب في المرحلة التي كان فيها رياض الصلح نائباً. ولاحقاً تم تسجيل تلك المحاضر على أقراص مدمجة اما نحن فاضطررنا لتصوير تلك المحاضر ورقة ورقة.
ثالثاً هناك دافع ثالث هو تأريخ رياض الصلح هذه المرحلة من خلاله في ظل عدم وجود أرشفة موثقة. وهناك حافز لإعادة النظر ومحاولة التجاوز. وهناك ظلم حصل باشرته فترة المحاولات الانقلابية في سوريا ومصر التي حفلت بها فترة ما بين الحربين العالميتين حينذاك واستطالت إلى ما بعد الحرب الثانية بسنوات عدة. وفي لبنان حصل انقلاب سنة 1952 سُّمي «الثورة البيضاء» أزاح رئيس الجمهورية بشارة الخوري من الحكم. وقد أوجدت الانقلابات مناخاً عاماً يشبه إلى حد كبير دمغاً سلبياً لمرحلة ما قبلها، حتى أصبح يسهل تقويمها بوصفها حالة رجعية ظلامية وتبعية وما إلى ذلك، طال هذا الدمغ كل المرحلة السابقة بدءاً من الثورة العربية الأولى مع الشريف حسين إبان الحرب الأولى من دون ان يكون مسموحاً الدخول في التفاصيل والتمييز بين الجوانب السلبية والإيجابية، وهذه عادة حالة تفرزها الانقلابات، لكنها كانت بارزة في مصر اكثر مما في لبنان، حتى اعتبرت المرحلة الملكية فيها وكأنها ألقيت في مكب نفايات.
من ناحيتي كنت اريد من خلال البحث في رياض الصلح ان ارى الوضع على حقيقته، وكما كان يراه هؤلاء الأشخاص في حياتهم في محاولة إنصاف لهم. فالناس عاصروا رياض الصلح في لبنان وفي الجنوب باعتباره جنوبياً ونائباً عن الجنوب، كأبي ومجايليه، كنا نتساءل هل الواقع هو كما أوحي إلينا، من أن هؤلاء السياسيين كانوا بالفعل حينذاك لا قضية لهم سوى مناصبهم ومصالحهم الخاصة؟ او انه يوجد ما يستحق النظر واستعادة الرواية. وأنا توصلت إلى جواب على هذا السؤال.
ذلك الجيل كغيره من الأجيال، ليس أهم ولا أعظم ولا أقل أهمية من جيلنا نحن مثلاً، او من الجيل الذي سبقه. هكذا يجب النظر إليه وإلى الأدوار التي أداها بالقدر الممكن من الموضوعية ومن دون تجنٍّ مبني على مقاييس لاحقة فرضت فرضاً، وشكلت زوايا إجبارية للنظر إلى الأشخاص وإلى المرحلة.
وهناك سبب آخر يتعلق بجاذبية رياض الصلح نفسه. فمنذ بدء النظر في الوثائق التي ذكرت منذ بداية التسعينيات. أثارني الصلح بصفاته كسياسي، وهذا أيضاً سبب مهم لمتابعة هذا الموضوع، منذ تلك الفترة وإن بتقطع، لكن في السنوات الخمس الأخيرة تفرّغت للموضوع.
لماذا رياض الصلح؟
÷ لبنانياً، العودة إلى رياض الصلح، كشخصية وتجسيداً لمرحلة وزمن، هي عودة إلى الزمن الاستقلالي، أي إلى جيل ضمّ آخرين غير رياض الصلح، لماذا لم يتمتع الآخرون بالعناية نفسها؟
} يمكن القول حالياً إن هذا مما أمكن تعويضه في حالات عدة، وليس فقط في حالة رياض الصلح، كذلك يمكن القول إن رياض الصلح هو اكثر الشخصيات المهمة والتي كانت لا تزال مهملة، إذ كان يوجد فقط كتاب صغير عن رياض الصلح كتبه هلال الصلح، وأساسه اطروحة دكتوراه. غير هذا لم يوجد شيء آخر عن رياض الصلح. اما بالنسبة لشخصية مثل بشارة الخوري فقد أنصف نفسه إذ ترك مذكرات من 3 مجلدات، تحكي عنه، لذلك لا توجد مشكلة اسمها بشارة الخوري في هذا المجال.. وأعتقد انه يوجد أشخاص آخرون يتم العمل عليهم الآن. أما رياض الصلح فصدر عنه كتابان أحدهما لباتريك سيل والآخر لكمال الصلح، وهناك كتاب عن عبد الحميد كرامي لنصري الصايغ وكتاب آخر عن مجيد أرسلان.
هناك أيضا السِّيَر إذ نجد اناساً كتبوا الكثير عن هذه المرحلة منهم من كتبوا مذكرات رائعة، كمذكرات عادل أرسلان المنشورة في حوالى 5 مجلدات، وهو معروف بأنه لبناني سوري، منها أيضاً مذكرات خالد العظم، رغم انها اقل ألقاً من سابقتها، لكنها تشكل مصدراً جيداً للمعلومات لمتابعة السياسة السورية والعربية في تلك المرحلة. وكذلك هناك كتب صادرة منها عن هاشم الأتاسي، كذلك عن نوري السعيد..
في هذه الحال ينوجد في المرء شعور عند معالجة مرحلة بهدف إنصافها وإنصاف رجالها ليس لتبجيلهم وتبجيلها بل من الضروري رفع نوع من الحظر على الرغبة المجردة المسبقة في إعدامهم مثلاً. ويبدو أن هذا الشعور ليس خاصاً بي فقط بل هو عام بدرجة ما بدليل كثرة الكتب التي تصدر وتتناول المرحلة نفسها.
÷ هل هذا له علاقة بالظرف اللبناني الحالي؟
} أعتقد ان له علاقة بالظرف اللبناني وبالظرف العربي، ومن المؤكد اننا أصبحنا في واقع يمكن وضعه تحت عنوان عام انه خارج جو المرحلة الناصرية ومقاييسها، ولأن إعادة النظر في المرحلة يستعرض مشاكلها وسوءاتها، من هنا نشأت الحاجة إلى العودة والشعور بالحاجة للبحث في المرحلة الاستقلالية.
÷ هل مقتل رياض الصلح كرئيس وزراء يستدعي في محل ما اغتيال رئيس وزراء آخر هو رفيق الحريري؟
} منذ حوالى شهرين نشرت محاضر عن محادثات كان أجراها رياض الصلح في باريس عام 1948 مع ألياهو سيسون ومساعده طوبيا أرزي، خلال حضوره لدورة الأمم المتحدة في باريس حينذاك وكانت الحرب الفلسطينية لا تزال مستمرة في اواخرها، وخلال تلك المحادثات احتلت إسرائيل جزءاً من الأراضي والمناطق اللبنانية الجنوبية. وفي آخر استعراض أجراه الباحث الذي يعمل في مركز أبحاث يديره عزمي بشارة يوجد سطران مفادهما انه خلال تلك المحادثات أعدت خطة صهيونية لاغتيال رياض الصلح في بيروت استمر إعدادها ومحاولات تنفيذها أشهراً عدة ثم ألغيت لاحقاً. ما يؤدي إلى الاستنتاج أنه إذا كان الصهاينة يريدون اغتيال رياض الصلح ما الذي يمنع أن نقول إنهم قتلوا رفيق الحريري؟
ورأيي أن هذه القفزة فيها خفة كافية، وحتى يقفز الواحد لا بد أن يكون خفيفاً (يضحك)، لذلك لا معنى لها إطلاقاً وغير واردة.
المشروع
÷ في موضع من الكتاب وردت عبارة «مشروع رياض الصلح». هل يمكننا ان نتكلم عن مشروع رياض الصلح؟
} لا أذكر ورود عبارة بهذه الصيغة بالضبط او بالمعنى المستفاد منها، لكني اعتقد أن المقصود هو الكلام عن الزعامة. لكن ما يمكننا الحكي عنه هو وجود رياض الصلح ضمن مشروع كبير أوسع من رياض الصلح، لدخول قادة عديدين فيه. هو مشروع تنفيذ الاستقلالات في البلاد العربية وتحديد موقع العرب في النظام العالمي الذي ولد بعد الحرب العالمية الثانية وشهد ولادة جمعية الأمم المتحدة. وهذه مشكلة مطروحة، على العرب خاصة في السياق التاريخي لعلاقة الدول الغربية الكبرى بالعرب، خاصة بريطانيا التي كانت تاركة مسائل هذا الإرث قيد التصفية، وكذلك في اميركا التي كانت تتقدم بسرعة إلى قيادة نظام عالمي جديد، خاصة انه كان مطروحاً كيفية الدخول في حالة الحرب الباردة، التي بدأت نذرها سنة 1948.
وعلى الصعيد العربي كان واضحاً أن الخيارات كلها هي خيارات استقلال الدول. وأن الجامعة العربية رغم انها كانت في سنواتها الأولى لكنها عند إنشائها كانت مشروعاً بالغ الأهمية وإطاراً يتوخى منه ان يكون بديلاً عن الاتحاد العربي. والحقيقة أن لبنان كدولة كان من الأطراف الأساسية التي لجمت تطور الجامعة العربية عن توليد واقع عربي أرفع وأقوى. لأن لبنان كان مهجوساً بالسيادة والاستقلال بالعلاقة مع المنظومة العربية، كحالة كل الدول الصغيرة التي يبرز فيها الهاجس الاستقلالي، وربما أيضاً بسبب الحالة المسيحية فيه.
دور رياض الصلح كان في هذا الإطار، اتسم بأقصى المرونة وباحتراف كبير جداً، وكما يقال انه سياسي 24 ساعة/ 24، باستقراء لبوصلة الاتجاه الوطني اللبناني مع أفق عربي.
÷ كأنه انتقال من وحدوي إلى استقلالي هل ينبئ هذا عن استشراف للحاضر.
} نعم بكل تأكيد. وهنا يبدو لدينا نمط من انماط العروبة، نزعة استقلالية غلبت في كل الأقطار التي تشكلت منها الجامعة العربية. حتى في سوريا، التي يبدو ان وحدويتها تطرح مشاكل على جيرانها، بروح هجومية في الموضوع الوحدوي، في ذلك الوقت لم تكن تلك الهجومية سائدة إطلاقاً، ولما سادت في مرحلة لاحقة كما في مرحلة انقلاب سامي الحناوي مثلاً فتشكلت الوحدة السورية العراقية التي استمرت أشهراً قليلة، ولاحقاً تمت الإطاحة بالرجل وبفكرته، وعندما أعقبه الشيشكلي بانقلاب مماثل عليه لم يكن بالوارد الوحدوي نفسه.
رياض الصلح تحديداً وبالدرجة الأولى هو من الأشخاص الذين سلموا بالاستقلالية السورية كما كانت مجسدة أيام شكري القوتلي وسعدالله الجابري وجميل مردم، حيث أصبحت سوريا مستقرة بحالة معينة موجودة داخلها وليس في تطلّعها إلى حالة موجودة خارجها أساساً. ورياض الصلح كان طيلة عشرين سنة من حياته السياسية جزءاً من الحركة الوطنية السورية وسيرته في الحكم كانت تقبُّل هذا الأمر. ومنذ اواخر العشرينيات وطيلة الثلاثينيات بدأ يعطي الأولوية للاستقلال كخيار. وعنده في موضوع الوحدة والاستقلال، أن شعار الاستقلال يتقدم على شعار الوحدة، التي هي موضوع خاضع لاختيار الأوطان. الوحدة لا تفرض فرضاً وينظر فيها عند تحقيق الاستقلال. وكان لديه حساب مفاده أن الوجود الصهيوني لن يكون عندئذ غريباً عنه، فإذا غلبت المنظور الوحدوي ستكون النتيجة فعلياً كيانات أقليات ستحتل ساحل بلاد الشام كله: صهاينة في فلسطين، شيعة في جنوب لبنان، دروز شمالي صيدا، علويين في الساحل السوري. أي أن هناك احتمالات ومشاريع عدة يمكنها أن تنهي الكيان الوطني في المنطقة الذي يتمثل بكيانات ثلاثة هي الكيان السوري، الكيان اللبناني والكيان الفلسطيني… فتكون الحصيلة عكس المراد نفسه تماماً من مطلب الوحدة.
هذه التحسبات تبدو واضحة جداً في سيرة رياض الصلح، وكانت اختياراته حكيمة جداً في سياسته.
الزعامة
÷ يلفتني أن هذه الزعامة التي كانت مشتتة بين طوائف ومناطق متعددة ومن دون أي تركيز في منطقة ما او في طائفة ما، جعل منها زعامة وطنية في وقت لم تكن تستطيع فيه ان توصل نائباً إلى الندوة النيابية. إذ انها ضعيفة على المستوى الطائفي والمناطقي.
صحيح. فرياض الصلح كزعيم يرغب بالدخول إلى مؤسسة الحكم في لبنان كان عالة على شخصية مثل أحمد الأسعد. وكان فعلاً أقلوياً في كل المناطق التي يدخل فيها. إنما الذي كان يميزه هو انتشاره ونفوذه في صيدا مثلاً وبيروت وطرابلس والبقاع وفي حلب والشام والقدس، عدا ان لديه كلمة مسموعة من مؤيديه ويعتبرون رأيه ويستقبلونه كزعيم. هذا الانتشار والتشتت بالطبع يؤدي إلى وضع غير متركز وغير قابل للتركز في كتلة ناخبة أو في كتلة نيابية ما، فلم يكن لديه مرة واحدة كتلة نيابية بعد دخوله إلى المجلس النيابي رغم تأخره في الدخول حتى عام 1943، بعد محاولتين عام 1925 وعام 1939 لم يحالفه الحظ فيهما، وفي دورات اخرى لم يترشح إما لأنه كان منفياً وإما لأنه لم يكن له حظ بالترشح.
كان رياض الصلح ينسج شبكة علاقات واسعة جداً مع الطيف السياسي والاجتماعي والاقتصادي العربي، وكان الناس يصنفونه في هذا المستوى من شبكة العلاقات، فهو من دون شك زعيم عربي وليس زعيم منطقة لبنانية او حي في مدينة أو جزء منها أو زعيم «شقفة من بيروت». بل هو قطب من أقطاب بلاد الشام كلها. وقدرته كسياسي والحظ التي توفر له بأن ينفى لسنوات طويلة تمكن خلالها أن ينسج شبكة علاقاته الواسعة في الخارج عربياً في المغرب مثلاً، ودولياً خصوصاً في بريطانيا وفرنسا.
شبكة العلاقات والمعارف التي كانت لزعامة رياض الصلح كانت تميزه تماماً عن زعامة محلية مغلقة وفقيرة في علاقاتها لكنها كانت أقوى منه انتخابياً بأشواط، رغم أنها غير قادرة على تجاوز مناطقها وأفقها المحدود المغلق.
÷ بهذا المعنى كان له ثقل دولي وثقل عربي فضلاً عن نظرته الاستشرافية..
} صحيح. بكل تأكيد. عندما تبنى الزعامة على هذا الأساس الواسع يؤدي إلى تغيير معنى الزعامة وطبيعتها. وهنا فرق كبير بين أن يكون المرء زعيماً في جنوب لبنان ويسوس خلافات عائلات ويطالب بحقوق طائفة فتكون زعامته والحالة هذه بالضرورة زعامة عصبية وفي أحسن الأحوال زعامة طائفية قائمة على توليف لعصبيات اهلية. هذا يختلف جداً عن زعامة اخرى تتعاطى باستقلال الدول العربية وتبني علاقات مع فرنسا وبريطانيا لمتابعة قضايا فلسطين من جنيف سنوات عديدة، وهو ليس فلسطينياً او سورياً بالمعنى الضيق للكلمة، ووضع جهده في مصاف آخر غير العصبيات الأهلية وإرهاصاتها وهو استقلال الدول العربية وإنجازه بعلاقات متكافئة مع الدول الكبرى واستبدال الانتدابات بمعاهدات، هكذا نكون أمام زعامة عربية مختلفة عن الزعامة المحلية. هذا بعض مما كان يميز رياض الصلح.
حتى ان زعماء سياسيين كباراً وجدوا انهم بحاجة للاستعانة بنفوذ رياض الصلح وعلاقاته خلال مناسبة التفاوض على المعاهدة السورية الفرنسية عام 1936، فرافق الوفد السوري للمفاوضات من دون أن يكون بإمكانه ان يكون عضواً فيه لأنه لبناني، ولكون الفرنسيين مؤسسين للبنان الكبير والمستقل حيث لا يقدر لبنانياً أن يتفاوض من ضمن الوفد السوري، لذلك رافق الوفد كناشط وكمستشارـ ولعب من خلال هاتين الصفتين دوراً كبيراً في التجاذبات التفاوضية لإنجاح المفاوضات على المعاهدة.
فلسطين وإعدام سعاده
÷ لو عرجنا على مرحلة الحرب الإسرائيلية الفلسطينية التي استدعت تهم الخيانة والتآمر… أين كان في هذه الحرب رياض الصلح؟
} في الحرب الفلسطينية بذل رياض الصلح جهداً هائلاً، حتى بالمعنى الجسدي تمثل بالتنقل الكثير خلال الحرب، بين بيروت والشام وعمان والقاهرة وبغداد والرياض، رغم صعوبات التنقل حينذاك التي لا تقاس بالتقدم الذي هو اليوم.
في أواخر 1948 بقي في باريس 3 أشهر يتابع ويناضل للاستحصال على قرار من جمعية الأمم المتحدة لمصلحة الفلسطينيين. وهو القرار الذي صدر تحت الرقم 194 الشهير وهو القرار المرجع الأهم لحق العودة المعترف به الآن دولياً. والدور المهم لاستصداره لرياض الصلح ولفارس الخوري الذي كان رئيس الوفد السوري إلى الأمم المتحدة حينذاك.
رياض الصلح بمقدار ما كان شريكاً ناشطاً في الحرب كانت مهمته الرئيسة هي تذليل الخلافات العربية عشية الحرب وأثناءها وبعدها في مهمة وساطة بين أقطاب الحرب وهم رؤساء بلاد إما أهم من لبنان استراتيجياً في الحرب الفلسطينية مثل الأردن، وإما بلاد عربية كبرى مثل مصر والعراق. فكان اهتمامه الرئيس أن يصل القادة معاً أمام كل محطة وامام كل مرحلة في مواجهة الحرب إلى موقف مشترك. لكن لما دنا موقف المحاسبة والمساءلة على الهزيمة، اعتبر رياض الصلح واحداً من رؤساء هذه الدول التي خاضت الحرب وانهزمت وخسرت فلسطين. واختزلت المعادلة في اعتباره واحداً ممن ضيّعوا فلسطين كفاروق في مصر وعبد الإله ونوري السعيد في العراق وشكري القوتلي في سوريا، كما ضيّعها الملك عبدالله في الأردن خصوصاً.
لم ينظر أحد في هذه الحالة إلى رياض الصلح وإمكاناته المحدودة وإلى انه رئيس وزراء لدولة صغيرة في لبنان، لم تستلم جيشها المحدود الإمكانات إلا قبل سنتين او ثلاث من الحرب وهو في طور البناء الأولي والإعداد، ولا يتعدى عديده 4000 عسكري لا تكفي حتى لحفظ الأمن الداخلي، بينما كان الصهاينة قادرين على تجنيد حوالى 90 ألف عسكري في فلسطين في مواجهة جيوش الدول العربية قاطبة.
وقد أصبح واضحاً من الكتب التي صدرت خلال العشرين سنة الماضية ان القدرة الصهيونية العسكرية كانت تتجاوز عدداً وقدرة بأشواط كل الجيوش العربية مجتمعة. ناهيك عن التسليح والتنظيم ووحدة الخطة ووحدة القيادة وغيرها من عوامل التفوق.
هكذا تم الحساب وصار رياض الصلح واحداً من القادة المخذولين المهزومين الذين لم يُعدّوا العدة الكافية للحرب والذين ضيّعوا فلسطين بالنتيجة.
÷ نعود إلى مسألة مهمة تتعلق برياض الصلح هي ما يقال عن مسؤوليته عن إعدام انطون سعاده، فمن الكتاب نفهم أن ليس أكثر من مسؤولية من غيره من أركان الدولة اللبنانية حينذاك، ففي الوقت الذي حرّض حبيب أبو شهلا (روم أرثوذوكس) على الإعدام رفض رياض الصلح إعطاء رأيه.. } صحيح. مسؤولية رياض الصلح في إعدام أنطون سعاده تتشكل في انه المسؤول الأول عن القبض على أنطون سعاده. لكنه ليس المسؤول الأول عن إعدامه. وهذه الخلاصة أثبتتها شهادة فريد شهاب، المدير العام للأمن العام اللبناني، الذي كان الجهة المتابعة تفصيلياً في عملية انطون سعاده، فشهاب هو الذي ذهب لاستلام سعاده من الشام، وهو الذي قام بالتنسيقات والمساعي الأمنية التي أدت للاستلام، وهو الذي يعرف أنطون سعاده أصلاً منذ الثلاثينيات.
روى شهاب في مذكرات كان يحتفظ بها لاستعماله الشخصي وهي ليست معدة للنشر، وعرفت بعد موته، كان هذا واضحاً من طريقة إعدادها وتبويبها غير المتسق بسبب ارتجال التدوين الآني لمعلومات يعرفها فيدوّنها بسرعة من دون تبويب كاف. تظهر تلك المذكرات تنصل الصلح من الإعدام اولاً، لأنه كما قال لرئيس الجمهورية بشارة الخوري حينذاك «أنا لا أحبّ الإعدام، ثم ان الرجل مسيحي، أنتو قرروا انا ما خصّني».
هذا الوضع أكثر وطأة على الجهة التي نفذت اغتيال رياض الصلح، وهو الحزب القومي، رغم ان الحزب القومي كانت لديه لائحة من الأشخاص المسؤولين عن اغتيال أنطون سعاده، منهم بشارة الخوري والمدّعي العام يوسف شربل والذي جرت محاولة اغتياله لكنه جرح من جرائها وأُقعد ولم يمت.
بعد معرفة موقف رياض الصلح الفعلي من إعدام انطون سعاده، يصبح الموقف من اغتيال رياض الصلح أصعب تحمّلاً من الناحية السياسية والتاريخية.
وواضح ان الحزب يمارس إفراطاً لفظياً في تجريم رياض الصلح لجهة مسؤوليته عن إعدام سعاده لتبرير فعل الاغتيال.