للثورة الشعبية التي أسقطت عدداً من الانظمة العربية وتنذر البقية بالسقوط قريباً، بعدان متوازيان يتنافسان على الاولوية، لكنهما يشكلان معاً حافزاً رئيسياً للنزول الى الشوارع: الحرية السياسية والعدالة الاجتماعية. وثمة ما يجزم في ان الازمة الاقتصادية هي التي أطاحت الرئيسين التونسي زين العابدين بن علي والمصري حسني مبارك، اكثر من الدكتاتورية التي ستطيح بزملائهما العرب.. وهي التي ستؤدي الى تغيير جذري في النظام اللبناني الصامد حتى الآن في وجه الزلازل الداخلية والخارجية.
والسيناريو الذي يمكن رصده في جميع البلدان العربية المضطربة، هو أن الثورات بدأت بتظاهرات شعبية صغيرة تطالب بفرص العمل ومكافحة الفساد، فتردّ عليها أجهزة الامن بالقوة المفرطة، وتقابلها السلطة السياسية ببعض الرشى المتأخرة وغير المجدية، فيتحول الجمهور الى المطالبة بإسقاط النظام، واستبداله بحكم ديموقراطي، حتى قبل ان تعرف غالبية المحتجين ما الذي تعنيه الفكرة، وما هي الامكانات لبلوغ هذا الهدف وما هي التحديات التي يمثلها على الصعيد الوطني والخارجي.
بديهي القول إن الاقتصاد سؤال جوهري، قبل الثورة وخلالها وبعدها. ولعله سيكون المعيار الأهم لنجاح كل ثورة عربية. وهو ما تواجهه الآن تونس ومصر اللتان تكافحان من اجل احياء الدورة الاقتصادية وتعويض الخسائر التي قدرت في الحالة التونسية بنحو 12 مليار دولار، وفي الحالة المصرية بما يزيد على 35 مليار دولار، مثلما تترقبه ايضاً ليبيا واليمن وسوريا، التي فقدت قدرتها على اغواء شعوبها بالمال، وهي ستكون في المستقبل القريب امام خطر الإفلاس الحقيقي، خصوصاً انه لا يمكنها ان تتوقع حصولها على مساعدات خارجية، لم يحصل على شيء منها الشعب المصري حتى الآن برغم اهمية ثورته ودولته.. لا سيما ان مصادر التمويل الخليجية باتت معنية أساساً بشراء صمت شعوبها بهبات مالية استثنائية، كما ان مصادر التمويل الغربية تواجه معضلات اقتصادية جدية في بلدانها، وكذا الامر بالنسبة الى المؤسسات الدولية التي صارت عاجزة عن الوفاء بلائحة التزاماتها المتزايدة يوماً بعد يوم.
المرحلة الانتقالية صعبة وخطرة جداً. مسؤوليتها تقع بلا أدنى شك على تلك الانظمة التي فشلت في ادارة شؤونها الاقتصادية قبل السياسية، واقامت في كل بلد عربي دولة مافيا بكل ما للكلمة من معنى، تتساقط حالياً الواحدة تلو الأخرى.. بحيث بات يكفي، كما يقول خبراء الاقتصاد، أن يعتصم الناس في بيوتهم لبضعة اسابيع او اشهر حتى ينهار النظام تماماً وتستعاد الاموال المسروقة ويحال الرئيس وافراد اسرته الى السجن.
تلك هي سيرة الثورات العربية المتلاحقة، التي لا تزال تجانب لبنان، لكنها يمكن أن تجرفه في طريقها اذا ما تثبت اللبنانيون، او على الاقل تلك الشرائح منهم المهددة بالفقر والجوع او تلك الشريحة من الشبان والشابات الحالمين بالتغيير، من ان الازمة الاقتصادية الضاغطة هي الفرصة السياسية الثمينة، لتغيير نظام متجذر لا ينتج سوى الحروب الأهلية وميليشياتها وأمرائها.