التعبئة تحصل بالعلاقات الاجتماعية لا بالفيسبوك والتويتر

في مناولة استكشافية، تطمح هذه الدراسة لبناء أولي عن مفهوم الثورة. وهي تستند إلى مبحثات ستة، أخصص كلاً منها لجدل حول شكلية محددة ترتبط بالعملية الثورية، منهجي في خلق هذا البناء يعتمد على أحداث يناير، فبراير ومارس 2011 كمنصة أرجع إليها، كقاعدة واقعية لهذا البناء النظري، لكن هدفي من هذه الدراسة هو الشأن المحلي العام لا التنظير العلمي الجاف: لما خُلقت أسطورة الثورات العربية، التسونامي القادم الذي لن تستطيع ايقافه، فأنا هنا وكلت لنفسي مهمة بيان سخافة هذه الخرافة في الحالة الكويتية على الأقل. رغم أن نسق تفشي الثورات إلى دول أخرى في وباء جمعي يجتاحها «تأثير الدومينو» Domino Effect، أمر تعززه شواهد وأدلة، لكن ما لا يعزز هو الحتمية التاريخية لهذا المفعول، فالمثبت فقط هو هذا المحفز السيكولوجي لكن في المحصلة الاوضاع الهيكلية لمجتمع ما هي محددة اتجاه الحراك الاجتماعي في هذا المجتمع لا العوامل الخارجية.

المبحث الثاني
الإطار الثقافي المصري واضح جدّا، لا تظهره مقولات كعب الاحبار وعمرو بن العاص فحسب، حتى التاريخ يظهره فلم ينتفض المصريون إلا مرة واحدة في القرن العشرين كله، مقابل عشرات الثورات والانقلابات السورية. بعد هذا كله يظل السؤال معلقاً: لماذا ثار المصريون، ومنذ السبعينات توقف السوريون عن «عادتهم في الثورة»؟ المبادئ النظرية الظاهرية، «الظلم والطغيان يولد الثورات»، «الشعوب تنهض لتثأر لكراماتها» لا تقارب الخضوع السوري ولا الثورة المصرية، مَن الأولى بالاستنفار ضده؟ نظام شبه مفتوح أم نظام دكتاتوري صريح؟ الإجابة على الحائط، غلب العقلي على الحسي وستراها واضحة: البيئة المفتوحة للنظام المصري (انتخابات شبه ديموقراطية / إعلام مفتوح / حضور منظمات المجتمع المدني / جو متساهل من حرية التعبير) سهلت مسببات الثورة أولاً ومن ثم قيامها ثانياً، لكن سوريا الأسد أغلقت الباب بالكامل تجاه كل هذا، فقدمت نفسها صراحة على أنها دولة توتاليتارية فقمعت ممهدات الثورة في المهد: تريد الثورة والتظاهر لم لا؟ لكن ودّع عائلتك أولاً! فمثلا تحت تأثير النموذج المصري نظّمت مجموعة على «الفيسبوك» تجمعا تظاهريا في دمشق، ما حدث أنه حتى حركة التسوق في المنطقة المحيطة بالموقع أصابها الشلل والجمود، السوريون ليسوا فقط لم يجرؤوا على التظاهر، وإنما لم يجرؤوا على التسوق البريء أيضاً: أحداث حماة ليست بالبعيدة وأراهن أنها على بال السوريين. تظاهرات هامشية في مدينة حدودية لا تحتسب قبل أن تنتقل إلى المدن الأخرى: لاحظ حين تظاهر المصريون في أكبر ساحة بوسط القاهرة وتظاهر البحرينيون في وسط البلد، مثلهم مثل يمنيي صنعاء، لكن السوريين لا يجرؤون إلا على التظاهر في بلدة حدودية أقرب إلى الأردن من أي مركز حضري سوري آخر. وعددهم لا يتعدى العشرات، مقارنة بعشرات الآلاف يتظاهرون في القاهرة وصنعاء وبنغازي والمنامة. وحين جاءت دعوة من جديد للتظاهر في ساحة «شمدين»، كبرى ساحات دمشق، ماذا كانت النتيجة؟ «لكن أي شيء غير طبيعي لم يظهر في المنطقة باستثناء الوجود الأمني الاحترازي». لماذا يا ترى؟

لا تنازلات
حتى الإجراءات الاستيعابية للنظام السوري كانت أقل من نظيرتها المصرية، «البدء في تشكيل لجان لدراسة تغيير قوانين الطوارئ والأحزاب والإعلام» لاحظ دراسة ولجان! لا شيء صلب! ومع ذلك هذا كان كافياً لإسكات السوريين، بينما حتى تغيير الدستور وتفويض الرئيس لصلاحياته لم يُرض المصريين. هل تعلم لماذا؟ لأن النظام السوري لا يقدم تنازلات! في ذات الوقت الذي كانت مستشارة الرئيس السوري تعلن به هذه الباقة الاستيعابية كانت وكالة الأنباء الفرنسية تعلن وصول عدد قتلى درعا إلى المائة. دعوة ثالثة للتظاهر في «جمعة العزة» في 2011/3/25 في عموم المحافظات السورية لم يكتب لها التحقق، جمعة الذل والمهانة! أولاً فقط مئات يتظاهرون في دمشق تفرقهم قوات الأمن سريعاً، وثانياً غابت أي دلالات لهذه التظاهرات حين خرجت تظاهرات مساندة للنظام في عموم البلدات السورية. ثالثاً هذه التظاهرات لم يكتب لها الاستمرار. بمزجه لقرارات استيعابية وقمعية نجح النظام في وأدها.
الأيام المقبلة كفيلة بتبيان صحة فرضياتي… هل سقط النظام الذي قدم القدر الأكبر من التنازلات (مصر)؟ هل ظل نظام الحزم والشدة (سوريا)؟

نخلص إلى الفرضية الأساسية:
للثورات الشعبية عوامل دفع لا تنمو إلا في بيئات ممهدة: عندما يكون النظام شبه ديموقراطي، متساهل، متردد، يعوزه الحزم والشدة يكون مؤهلاً للسقوط، «فالناس العقلاء لا يهاجمون أنظمة محصّنة عندما تكون الفرص السياسية مغلقة»، الأنظمة القمعية المستبدة (مادامت مستبدة وقمعية) فهي في مأمن من هذا الخطر. «فاليأس العام وانتشار المظالم داخل مجتمع ينتج عنه الإحباط، المقاومة السلبية وحتى الاكتئاب لكن إرادة التغيير تستدعي تغيراً في ظروف الحكم والنخبة لتتشجع على الحركة».
لا تستغرب هذه الفرضية، تعداد الثورات الناجحة في مرحلة 2000 – 2010 يظهر نشوؤها ليس في دول دكتاتورية أو قمعية! انتبه مره أخرى! ليس في دول دكتاتورية أو قمعية! لكن في بيئات يصفها علماء السياسة «بيئات شبه ديموقراطية» «بيئات هجينة تحوي عناصر ديموقراطية وأخرى استبدادية» Hybrid Regimes في منطقة رمادية تتوسط الدكتاتورية والقبول بالديموقراطية، البيئة الجورجية، البيئة الأوكرانية، البيئة الصربية، البيئة القيرغيزستانية تعتبر أمثلة حية لهذا وجميعها أنتجت ثورات أزاحت النظام القديم «شبه الديموقراطي». ففي الديموقراطيات الكاملة قبول تداول السلطة يوفر استقراراً سياسياُ، في القمعيات الكاملة سلطوية النظام توفر هذا الاستقرار لكن هجينية الأنظمة «شبه الديموقراطية» لا توفر هذا ولا ذاك: هذه علتها الهيكلية! كونها حاملة لجرثومة تحللها في هيكلية نظامها، فإن «الدول شبه الديموقراطية» تواجه خطر الانقراض قريباً، أمام النخبة الحاكمة يبدو خيار التراجع عن التنازلات الدستورية والانقلاب إلى دكتاتورية صريحة يحمل وزناً مقابل قرار القبول بديموقراطية تامة والاكتفاء بدور برتوكولي في الحياة السياسية. فدعك من الصورة السائدة، لماذا الثورات الأخيرة حصلت جميعاً في بيئات هجينة لا بيئات استبدادية بالكامل؟ هل الاستبداد والطغيان يقمع الثورات أم ينميها؟ هل تتغذى على ضعف النظام وتساهله وتجمله الديموقراطي؟ هل تبدأ حين يبدأ النظام في تقديم تنازلات؟

لا أنتهي هنا! نحتاج الآن إلى جدل متعمّق في طبيعة ثنائية «السياسة القمعية والفعل الثوري/ التظاهري»، ألجأ إلى الدراسات الإمبريقية فأجد تضاربا عنيفا، حيناً للقمع أثر ايجابي على الحركة الاحتجاجية، حيناً له أثر سلبي، ثم أخيراً له علاقة تشابه حرف اليو الانكليزي U مقلوباً: «بداية التفاعل بين الإجراءات القمعية والفعل الاحتجاجي الثوري يولد ردة فعل ثوري تتناسب مع حجم الإجراءات القمعية، لكن زيادة في جرعة القمع تؤدي إلى ثبات الفعل الثوري / الاحتجاجي أولاً، ثم زيادة أخرى توقف هذا الفعل الاحتجاجي بالمطلق». كيف أبرر هذه الاختلافات الإحصائية؟ كيف يفسَّر نجاح الإجراءات القمعية حيناً وفشلها حيناً آخر؟ سأحتاج إلى الغوص أكثر.

كلفة العمل الجماعي
تبعاً لنظرية العملية السياسية (Political Process Theory) فإن القمع يقلص هيكلية الفرصة السياسية، بما يزيد من كلفة العمل الجماعي (Collective Action)، وبالتي يقلل العمل الاحتجاجي، تتفق معها جزئياً نظرية الاختيار العقلاني (Rational Choose Theory)، بزيادة المظالم (Grievances) يزداد الميل لدى الأفراد للمشاركة في العمل الجماعي، لكن بالوقت نفسه كلفة المشاركة في هذا العمل الجماعي تزداد بفعل الإجراءات القمعية، بالموازنة العقلانية بين هذين العاملين يُحدد قرار المشاركة من عدمه. هذه النظريات تفسر شيئاً على الأقل!، عامل كلفة المشاركة في الفعل الاحتجاجي ينقلنا إلى دور طبيعة النظام السياسي القائم في تحديد شكل العلاقة بين القمع وردة فعل المعارضة «فالقمع السلطوي يجابه بتصعيد مماثل من قوى المعارضة في الديموقراطيات، لكن مستوى عاليا منه له فعالية عظمى في الأنظمة اللا-ديموقراطية». كذلك يسجل دوراً لدرجة القمع الموظفة «فخطر العنف يعمل على زيادة غضب المعارضة وحراكها الثوري ابتدائياً، إلى عتبة محددة من القمع الحكومي بعدها يفسح الغضب مجالاً للخوف». كما أن «السياسات الحكومية الثابتة والمستمرة في القمع / الاستيعاب تقلل الانشقاقات الثورية لكن تأرجح هذه الإجراءات بين القمع تارة والتنازل أخرى يعمل على زيادتها». «فتأرجح الحكم المستمر بين الإجراءات القمعية والإجراءات التنازلية يظهر تقلبه بالتالي عجزه وقلة حيلته». لهذا لم يمل الداهية ميكافيلي من تحذير أميره من مغبة تقديم تنازلات إلا من موقع قوة، تقديمها تحت ضغط الشارع سيجر المزيد بعدها إن لم يجر الثورة كاملةً. ثم «هذا يفسر لماذا الثورات تعقب مزيج من الإصلاحات والقمع معاً».
هذه ليست دعوة للقمع، على الأقل ليست دعوة مفتوحة، فكما تظهرها هذه الدراسات، المفاعيل تخضع لعدة متغيرات، يحتاج إلى حنكة سائس محترف لا التخبط المعتاد.

الحالة الكويتية
ثم حين نرجع إلى الحالة الكويتية لا نجد ما يسر أبداً: اتفق الباحثون على هجينية النظام السياسي الكويتي، فهو «نظام مهيمن سلطوي، لكن انتخابي» (Hegemonic Electoral Authoritarian)، هو «نظام هجيني أكثر استمرارية» More Persisting Hybrid Regimes، نظام من دون خطة كبرى للحكم أو الإدارة، حيناً يساير الشارع تقبلاً لنتائج العملية الاقتراعية، وحيناً آخر يحاول، بلا جدوى، القمع. هذا يشعل ضوءا أحمر، فالخلاصة بسيطة ومباشرة: بالنهج السياسي المتبع الأنظمة الحاكمة ذاتها تختار بقاءها من عدمه. الأوضاع الهجينة لا تستمر، إما تتنازل الطبقة الحاكمة عن سلطاتها وتكتمل عملية التحول إلى ديموقراطية تامة أو تنقض على هذا المسخ الديموقراطي وترجع الى الاستبدادية المطلقة.
ثم تبرز نقطة جانبية، الإطار الثقافي لحاملي الجنسية الكويتية في تحول راديكالي – سريع لاحظ تغير الأعوام الخمسة السابقة على العقل الجمعي لقواعد قوى المعارضة الاجتماعية الآن: مزاجهم تصعيدي هائج! ولا تبدو الأيام المقبلة إلا حاملة لمزيد من الهيجان في هذا المزاج، إذا يُدق الجرس باكراً، فمفعول الحل القمعي يجري عكس عقارب الساعة، مباشرته اليوم تحمل فرص نجاح تفوق فرصة الغد، مباشرته غداً تتفوق على فرصة ما بعد عامين أو ثلاثة. ثم الالتجاء إلى حلول قمعية الآن في ظل وجود رعيل أول من كبار سن لم يتشرب جرعة ثورية يحمل وزناً، إذ سيعمل هؤلاء كعامل تثبيطي لن تجده بصفك بعد 10 أعوام.
(يتبع)

المبحث الثالث
الصورة بديل البندقية: الميديا التلفزيونية تقود الثورة

لما تجاوزت المنظومة الإعلامية أنساقها الاعتيادية، وقفزت إلى المساهمة في بناء الحدث لا الاكتفاء بصياغه شكل إخراجه النهائي، فإن مساهمة الميديا التلفزيونية العابرة للسيادة كانت مرجعية في تكييف الأحداث لمقاربات محددة. التالي محاولة لمعالجة هذه المساهمة وتبعاتها.
بتبني الحالة المصرية، فإن غياب الصورة الحية خلال «العملية الثورية» Revolutionary Process كان سيكون عاملاً مثبطاً ضد التعبئة والحشد. سلاح مجرب في الأوقات العصيبة: اخلق أجواء تعتيم وأملأها بالشائعات والأخبار المغلوطة. وخلف هذا الضباب الكثيف من الشكوك والريبة والخوف لن تجد من يجرؤ على الحركة والتظاهر، لب المعارضة المؤدلج سيخرج، ولكن ما يهمني هو ثني رجل الشارع العادي متأرجح الرأي عن الخروج، من يكسب رجل الشارع العادي يكسب المعركة، دوامة من الأفكار والآراء والمخاوف تعتمل في عقله، هذه الأفكار والمخاوف لا تعمل إلا على ثنيه عن المشاركة، ولكن تأرجحه لم يظل طويلاً حين رأى المتظاهرين مباشرة في ساحة التحرير، ألوف مؤلفة، يغنون ويطالبون، بأمان تام، فسقطت كل هواجسه ونزل إلى الشارع.
في سيكولوجية قرار المشاركة في العمل التظاهري الجمعي «نموذج الحساب العقلاني» Rational Calculus Model Of Crowd Action يقول الأمر ذاته، هو يتضمن خمس خطوات عقلية، أولاً أفراد الحشود تحاول جمع معلومات عن الأوضاع المستجدة، ثانياً تستخدم هذه المعلومات للتنبؤ بالتطورات المتوقعة، ثالثاً بالبناء على هذه التوقعات تعدد الخيارات المتاحة أمامها للحركة، رابعاً ترتب خياراتها حسب النتائج المتوقعة لكل خيار، خامساً تذهب مع الخيار المتضمن تقليلاً للخسائر وتعظيماً للمكاسب.

المد المعلوماتي
حين تقطع الإمداد المعلوماتي كيف تستطيع هذه الجماهير جمع معلومات لتقويم الوضع؟ كيف تستطيع التنبؤ بالتطورات المتوقعة؟ كيف تستطيع حساب احتمالات خسارتها «قتل، سجن، خسارة وقت في عمل لا يجدي نفعاً»؟ حين توقف المد المعلوماتي، فإنك فعلياً تنقض على عملية الحراك الجماهيري في مهدها. هذا ليس كل شيء فالبث الحي 24 ساعة على 24 ساعة، الكذب المباشر في تقدير عدد المتظاهرين، ترديد عشرات الأخبار العاجلة، المبالغة في القيمة الإخبارية، وحتى مصداقية هذه الأخبار، هذا كله خلق حالة من «الحتمية» و«التاريخية»، لها تأثيرات سيكولوجية على المصري البسيط، أوحى بقرب سقوط النظام حتى قبل فقده لمراكز قوته، عندها تدافع الجميع لإبعاد أنفسهم عن قضية خاسرة والقفز إلى سفينة المعارضة، التيار العلمي السائد يقول ذلك: بالتعرض الكثيف لوسائل إعلامية موجهة يتشكل رأي عام خامل أو فاعل يدفع في اتجاه مواقف تتفق مع المحتوى المبثوث. ميل المشاهدين إلى الإيمان بهذا المحتوى يتناسب مع عدد ساعات المشاهدة. إحدى تفسيرات الحراك الشعبي في ثورة أوكرانيا تجد صداها في هذه النظرية.
في حالة مصر يبدو النموذج جذاباً للغاية، شاهد المصري العادي تغطية قناة الجزيرة الفضائية للحدث باهتمام بالغ، حكماً للمحتوى الإعلامي المنحاز، فإنه مع كل ساعة مشاهدة يزداد اعتقاده بعدالة قضية المعارضة، وبحتمية سقوط النظام، بساعات مشاهدة إضافية يتحول هذا الاعتقاد إلى قناعة تامة تدفعه إلى المشاركة في صنع الحدث. كذلك التجارب التاريخية في فترة 2000 ـ 2010 جميعها شهدت نفوذاً لافتاً للميديا التلفزيونية في إنجاح الثورات، في جورجيا خرجت الجماهير بالملايين بفضل قناة تلفزيونية، أوكرانيا هي الأخرى شهدت السيناريو ذاته، قناة تلفزيونية واحدة تكسر العتمة المعلوماتية التي فرضها النظام، وتنقل الثورة إلى أبعاد جديدة. الثورة الصربية تبعت الاتجاه نفسه أيضاً.

إذ حققنا أساسية الميديا التلفزيونية في حسم «الأوضاع الثورية»، نفحص الآن تعامل النظام المصري مع وسائل الإعلام. توالت الأخطاء والخطايا: أولاً سمح بالنقل الحي للحدث من داخل الأراضي المصرية، كان في استطاعته حرمانهم من الصورة الحية، تردد ولم يمنع، ثانياً: حتى حين أراد الحجب لم يستخدم سلطة الدولة المباشرة، فلجأ إلى إجراءات قرصنة وتشويش انقلبت ضده. هنا لا أرى رحيل النظام المصري كحاجة شعبية فقط، مع هذه الخطايا، هو ضرورة عقلية، هذا نظام ليس مؤهلاً لإدارة أزمة، فكيف يدير بلداً؟

الإشكالية الكويتية
في مقاربة الحالة الكويتية تبرز إشكليتان، مدى فعالية غلق البلد إعلامياً، ومدى قدرة مؤسسة الحكم على تحمل الكلفة السياسية لهذا الإغلاق. أرى الوضع مشرقاً، صغر البلد مساحياً وديموغرافياً يسهل عملية غلقه إعلامياً ساعة الحقيقة، ثم للإعلام العالمي لا تبدو الكويت الإمارة الصغيرة بتلك الأهمية الجيوسياسية لتعطى مساحة تغطية، كالتي خصصت للدراما المصرية.
أما الإعلام العربي فهو عربي في النهاية! أداة تحكم دعائية أكثر منها وسيلة إعلامية: هل ستتوافر إرادة لصانع القرار لاتخاذ قرار الغلق الإعلامي؟ التكلفة السياسية لهذا الإغلاق يجب موازنتها بحراجة الوضع السياسي العام، عندئذ لن تبدو مكلفة على الإطلاق. ثم في الكويت المعالجة لا تقتصر على المنع والحجب فقط، هناك دور يحتاج ملئه إلى Spin Doctor بارع في توجيه الرأي العام وصياغته.

بعد ذلك احتاج الحديث عن الغول الجديد، مؤرق نوم الحكام، مهدد عروش الملوك! الميديا الاجتماعية، ولكن منذ متى يُخشى «الثوار الكتبة»؟ أنا استهين تماماً بالقدرات التحشيدية للميديا الاجتماعية، لا تشكل لي أي هاجس! أولاً تجاربها التجميعية الفاشلة تفوق مثيلاتها الناجحة، فشل في بيلاروسيا 2006، فشل في إيران 2009، فشل في تايلاند 2010، هي بعيدة كل البعد عن اعتبارها الوصفة السرية لنجاح الثورات، حتى ثورات مصر وتونس الأخيرة من السخف افتراض لعبها لدور ما، فمعظم من نفذوها فقراء من الطبقة الوسطى والدنيا وهو بعيدون عن مواقع التواصل الاجتماعي، ثم هناك خلط للأوراق، فخلال الحركة الخضراء في إيران مثلاً يلاحظ أن أغلب من استخدم مواقع التواصل الاجتماعي خلالها كانوا من الأجانب خارج إيران . أما ثورة ملدوفيا المعنونة إعلامياً «بثورة التوتر»، فبالبحث تكتشف أن البلد يحوي أقل القليل من حسابات تويتر أصلاً !

العلاقات الاجتماعية أولاً
مالكوم غلادويل يعيب على دعاوى النشاط السياسي في مواقع الميديا الاجتماعية من أكثر من زاوية، أولاً الحراك السياسي هو عمل جدي له عواقبه، يحتاج إلى صلات قوية لتحشيد الأنصار، ولكن بنيوية الشبكات الاجتماعية القائمة على علاقات سطحية لا تنفع في هذا التحشيد، تويتر هو وسيلة لمتابعة نشاط أشخاص قد لا تراهم في حياتك، بينما الفيسبوك أداة للإبقاء على اتصال مع معارف هامشيين، ربما كنت ستفقدهم لولاه، هذا ما قد يجعل عدد أصدقائك على الفيسبوك لا الحياة الواقعية يصل إلى ألف شخص، ولكن التعبئة والحشد لتغيير سياسي عمل جدي له عواقب خطرة، لا تنفع معه هذه الصلات الهشة، بل يتطلب قدراً من العلاقات الشخصية والثقة، أميل إلى الاتفاق معه، فالأدبيات العلمية ترى أن التعبئة دائماً ما تكون في مؤسسات اجتماعية وثيقة الروابط الاجتماعية (صداقة شخصية ـ علاقة جيرة ـ علاقة قرابية ـ علاقة حزبية ـ علاقة نقابية ـ علاقة دراسية).
ثانياً: يبرز مفهوم Slacktivism، بنشاطات قليلة التكلفة، مثل الانضمام إلى جماعة «أنقذوا دارفور» على موقع التواصل الاجتماعي الفيسبوك، يعتقد هؤلاء «الكتبة» أنهم قاموا بتغيير حقيقي ولكن هذا التأييد العاطفي لا يترجم فعلياً إلى إنجاز حقيقي ينشأ عنه تحسن، فعدد المنضمين إلى جماعة دارفور يتجاوز المليون والربع، ولكن قيمة متوسط مساهمتهم للقضية لا تتجاوز 9 سنتات أميركية، فالقيام بتغيير سياسي يستدعي التزام ثوري لا يتوافر لدى «الكتبة». ثم أني أفسر هوس الإعلام والمجتمع بالدور السياسي المزعوم للميديا الاجتماعية تحت بند الحماسة، الإعجاب بوهم هذا القادم الجديد الذي سيغير كل شيء، الذي سيرجع قوة التغيير إلى الفرد البسيط، هذه الفكرة لها جاذبية خاصة لا يستغرب رغبة العامة تصديقها، ولكن العالم الافتراضي قد يكون مناسباً للثرثرة والتنظير، ولكن التغيير الحقيقي يستدعي شجاعة في عالم واقعي، مثالاً صفحة ثوار سوريا يفوق منتسبيها على الفيسبوك 84 ألفاً، صفحة ثورة «حنين» الوهمية يفوق منتسبيها العدد ذاته، ولكن أين هم في الواقع؟ ثم دعك من الشعارات، الواقع يؤكد سهولة السيطرة السلطوية حتى على هذا العالم الافتراضي، النموذج الصيني باهر في هذا المجال، ولكن حتى التجربة الكورية الجنوبية أثبتت فعاليتها.

السابق
الراي: القمة المسيحية لسكب “المياه الباردة” وإيجاد “عازل” عن “بركان” المنطقة
التالي
ناصر الخرافي وحزب الله