السنّة قلبهم على أنظمة… والشيعة على أخرى!

في سلّم الانتفاضات العربية، قد يكون لبنان آخر درجة. وعلى الأرجح سيكون وحده في منأى عن الانتفاضات. لبنان مرشح للحروب الأهلية لا للانتفاض على النظام. هكذا تعلّم اللبنانيون من تجربة "الحركة الوطنية"، و"البرنامج المرحلي" الذي كانت جهزته في سبعينيات القرن الفائت لتغيير النظام. فإذا بالتغيير يتحول حربا اهلية، تداعياتها مستمرة منذ 36 عاما، ولا افق لها. لبنان يعيش على قاعدة شديدة الاهتزاز بين استحالتين: السلم النهائي والحرب الدائمة.

مصابون بـ"عُصاب الأنظمة"

ليس هناك "جماهير" للثورة في لبنان، بل جماهير للطوائف تتحرك تحت الطلب. ويصعب تماما تحويل الجماهير المتنازعة طوائفيا ومذهبيا الى جماهير موحدة تطالب بالاصلاح. على الاقل حتى انتهاء دور الطوائف في لبنان، بعد زمن لا يمكن تقديره.

عندما ينظر اللبنانيون الى مجريات سقوط بعض الانظمة في الشرق الاوسط، واهتزاز بعضها الآخر، يشعرون بأنهم جزء من عالم آخر، لأن لا نظام عندهم كي يسقط.

هناك "أنظمة صغيرة" للطوائف والفئات متجذرة منذ أجيال وتحتاج الى ورش مضنية من التربية على التغيير والتصدي للفساد.

لكن هناك انتظار لبناني مشترك للانتفاضات. انه القلق لدى كل طائفة من أن يسقط بالضربة القاضية "نظام رعايتها" العربي أو الإقليمي. فالطوائف في لبنان مصابة بـ"عُصاب الأنظمة"، وإذا ما سقط واحد منها تصاب طائفة بكاملها في لبنان، وتصبح يتيمة ورهن انتظار البديل، على أمل تجديد العقد الحاصل بين هذا النظام ووكلائه اللبنانيين، الذي يُطلق عليهم تسمية "الحلفاء محليا".

السنّة والشيعة والهواجس

الطائفة السنّية و"تيار المستقبل" مصابان بهاجس ما بعد التغيير في النظام المصري، الداعم للسنّة منذ عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وقلقان من اهتزاز أنظمة عربية أخرى أو سقوطها تمنح الحالة السنية دعمها القوي، ولولاها لاختلّ التوازن على الساحة الداخلية.

والشيعة، وقطبها الثنائي "أمل" و"حزب الله"، يعيشون الترقب لما ستؤول اليه التطورات في الشارع الإيراني، "النائم" نسبيا، وقد يعود الى حراكه في اي لحظة. اضافة الى مسار الانتفاضات على الساحة العربية، بدءا بسوريا. ولا يمكن التنبؤ بالمفاجآت التي تصيب المراقبين لحركة سقوط الانظمة، أو اهتزازها أو انشغالها بشؤونها الداخلية على الاقل حتى إشعار آخر.

تطلعات مسيحية أم مخاوف؟

بين هؤلاء، يتخذ الترقب المسيحي للتطورات العربية معنى مختلفا. فالمسيحيون اللبنانيون لم يكونوا، وليسوا اليوم، ابناء شرعيين لأي نظام عربي. كما أنهم لم يعودوا أبناء شرعيين لأي قوة غربية كما كانوا في زمن فرنسا "الأم الحنون". فهؤلاء المسيحيون ينظرون الى حركة التغيير العربية من باب الرغبة في دخول مرحلة ديموقراطية تتيح المزيد من الحداثة والاتجاه المدني أو العلماني، لكنهم يخشون استبدال ديكتاتورية الأنظمة الكلية بديكتاتورية الأنظمة السلفيّة. ففي الحال الثانية، يكون الشرق الأوسط امام مرحلة صعبة من تاريخ التنوع الديني، المسيحيون المشرقيون هم اول ضحاياها.

دائماً تحت "المظلة"

لكنّ دينامية الصراع على الأنظمة تعني في لبنان الطرفين المسلمين اساسا: السنّة والشيعة. فلا تسوية سياسية تمّت في لبنان منذ العام 1975، الا وكانت ثمرة تقاطع المصالح بين طرفين اقليميين معنيين بالصراع الداخلي. والطائف قام العام 1989 على تسوية سورية – سعودية بمباركة اميركية. وكذلك الدوحة العام 2008. وليس اسقاط حكومة الرئيس سعد الحريري، لتقوم محلها حكومة برئاسة الرئيس نجيب ميقاتي، سوى استكمال للخطوات السياسية ضمن معادلة "س – س". ولم يكن ممكنا تمرير "عاصفة" اسقاط هذه الحكومة، في مقدار كاف من الصمت السعودي، لولا الرضى الضمني على شخصية ميقاتي الوسطية، والرهان على عدم خرقه هذه الوسطية في عملية تأليف الحكومة. ويوما بعد يوم، تظهر صحة هذه القاعدة.

وتظهر التطورات ان جزءا من الشلل الداخلي الذي يطاول مسألة تأليف الحكومة، يرتبط بالانتظار المتبادل لمسار حركة التغيير في الأنظمة، وخصوصا انها تتم وفق خطى سريعة. وإذ تتركز القوى الداخلية على مظلة عربية واقية، فإنّ هذه المظلة تبدو في ذاتها قيد اعادة التشكّل. وما من قدرة لهذه المظلة على أداء مهمتها المطلوبة لبنانيا، لأن اركانها منشغلون باستحقاقات شديدة الدقة في داخل المنظومة العربية. وضمن هذا المشهد، يبدو الوضع اللبناني حاليا الأكثر تماسكا وقدرة على الانضباط، في ظل توازن الحد الادنى الداخلي، واستمرار الرعاية الدولية لهذا الوضع، من خلال القرارات الدولية ودور قوات "اليونيفيل".

في انتظار تبلور الصورة

ولذلك، تستمر المراوحة في تأليف الحكومة الى أَجَل غير مسمّى، وتحديدا الى ان تتضح ملامح المعادلة الناتجة من حركة التغيير الجارية في الأنظمة العربية، وفي ظل توقعات مختلفة عن مدى الحجم الذي ستتخذه هذه الحركة والحيز الجغرافي الذي ستصل اليه. وعندما ترسو هذه المعادلة على صورتها الأخيرة، يصبح ممكنا للقوى الداخلية، التي اعتادت تسليم امورها للخارج، ان تبني حساباتها وفقا لهذه الصورة.

الإفادة من الدرس العربي الراهن تبدو ضرورة لبنانية. ولعلّ الخلاصة التي تفرض نفسها تتجلى في أن تعتاد القوى المتصارعة إنجاز الحلول داخليا، وأن تتفاهم من دون تأثيرات أو ارتباطات خارجية.

وإذ يقدم لبنان اثباتا على أنه الوحيد في المنطقة العربية الذي لا يمكن اطلاق صفة "النظام" عليه، وتاليا هو الوحيد الذي لا يسقط بانقلاب، يظهر اللبنانيون مرشحين للحرب الأهلية اكثر مما هم مرشحون للثورة، إذا ما شاءت المصالح الخارجية اشعال الحرب. وهذا ما حصل مرارا. فهل تعلّموا؟

السابق
معضلة إسرائيل في دمشق
التالي
الراي: “فرْملة” الحكومة اللبنانية تفتح الباب أمام عناوين تتسارع “بلا كوابح”