إسقاط النظام: بلبلة

تظاهرات «إسقاط النظام الطائفي ورموزه»: خلاف على الأرض وفي الشعارات يسعى الشباب بدأب إلى تطويقه قبل أن ينفجر، وخاصةً أنّ شرّ الأحزاب السياسيّة يتربّص بهم. فهل تضيع القضيّة بين «متديّنون لا طائفيّون» وعلمانيّين، بين دولة علمانيّة أو دولة مدنيّة ديموقراطيّة؟

بعد مشهد الانقسام الذي طفا على السطح في تظاهرة «إسقاط النظام الطائفي» في 27 آذار الماضي، وعد المتظاهرون بالعودة في صورة موحّدة في تظاهرة صيدا في 3 نيسان. لكنهم لم يلتزموا بوعدهم تماماً، فجاءت تظاهرة عاصمة الجنوب لتكشف النقاب عن خلافاتهم أكثر فأكثر. وإن كان مشهد الاختلاف ليس غريباً عن أي تحرّك شعبي في بداياته، على أن يتّجه بعدها نحو مزيد من التنظيم وتحديد الأولويات والمطالب الأساسيّة، فما الذي يحول حتى الآن دون اجتماع هؤلاء الشباب حول المطالب المعيشيّة والاجتماعية التي من المفترض أنّها حاضرة تحت الشعار الكبير، «إسقاط النظام الطائفي»؟

أم أنّهم وإن ابتعدوا عن التعصّب الطائفي أمعنوا في التعصّب الفكري والسياسي حتى بلغ فيهم الأمر حدّ استعارة لغة ونهج الإلغاء من الطائفيين؟ يضاف إلى ذلك مشكلة حقيقية في محاولة بعض الزعماء والقوى المذهبيّة والأحزاب السياسية وضع العصيّ في دواليب المتظاهرين وإفشال مسيرتهم نحو العلمنة.
في الأسابيع الماضية، كان الخلاف الأكبر على شكل الدولة التي يريدها المتظاهرون. فبين مريدي الدولة العلمانيّة ومؤيّدي الدولة المدنيّة الديموقراطية، وقع الشقاق الذي ظهر على شكل تظاهرتين في 27 آذار الماضي. لكن قبل تلك التظاهرة، كان حسن اسماعيل قد اتّخذ قراره بعدم المشاركة في تظاهرات «إسقاط النظام الطائفي» بعد الآن. بالنسبة إلى الشاب (20 ربيعاً) المتديّن والمؤيّد لحزب الله، فإنّ مشاركته السابقة كانت للوقوف ضدّ النظام الطائفي، لكنه في الوقت ذاته يرفض شعار الدولة العلمانية. هتف اسماعيل ضدّ النظام ولو أنّه مقتنع جدياً بأنّ مطلبه هذا لن يتحقق بما أنّ «70% من الشعب اللبناني يستفيد منه، كما أنّ الشعار المستلهم من الثورات العربيّة لا يمكن تطبيقه على الوضع اللبناني بما أنّه ليس في لبنان حزب حاكم، بل نمط تفكير ومشكلة العقليّة الطائفيّة التي تتحكم بالبلد». من ناحية ثانية، يرفض الشاب العلمانية لأنه يرى فيها تهديداً لما يمثّله هو وفئة من اللبنانيين، أي «المتدينين اللاطائفيين»، ويقول إن لدى العلمانيين اللبنانيين عقليّة إلغائيّة تماماً كعقليّة الأحزاب الإسلاميّة المتطرّفة.

كما اسماعيل، كذلك علي مغنيّة الذي كان من أوائل الذين شاركوا في نصب خيمة «إسقاط النظام الطائفي» في مدينة صور، يبحث عن دولة مدنيّة ديموقراطية. يعرّف مغنيّة عن نفسه بأنّه «مواطن مستقلّ»، أي أنّه ينتمي إلى الفئة الأكثر تهميشاً، ربما في البلد، والتي حجزت لها مكاناً في هذه التظاهرات أملاً بإيصال صوتها. لكن لعنة الأحزاب حاصرتها مجدداً. إذ استولى أفراد من الحزب الشيوعي في صور على خيمة المعتصمين وأقصوهم عنها. رغم ذلك، يصرّ مغنيّة على تمسّك المستقلّين بهذه الحركة وعلى العلاقة الجيدة والتعاون مع «أهل الخيمة» الحاليين بما أنّ الهدف الأسمى هو إنجاح هذا التحرّك. ويرى مغنيّة أن النجاح هو في إسقاط النظام أولاً، ثم في البحث عن الصيغة التي ترضي طموح اللبنانيين. «لا أرفض العلمانية، لكن مجتمعنا المبني على أسس طائفيّة ليس مستعداً بعد لتقبّل الفكرة ويربطها تلقائياً بالإلحاد، لذا من الأفضل لو نطرح شعار الدولة المدنية الديموقراطية».

بشار، المستقلّ هو الآخر، يرى أنّ الخلاف لا يجب أن يكون على رفع شعار الدولة المدنيّة أو الدولة العلمانيّة، بما أنّه ليس هناك نظام علماني واحد، وهو يُطبّق بحسب متطلبات كل دولة. لكن الأهم هنا برأي بشار ورفيقيه حسن وتمارا هو إنشاء دولة لا تتركهم يموتون على أبواب المستشفيات إن لم يكن لديهم إمكان الاتصال بزعيم مثلاً وأن يقوم السياسيون فيها بعمل فعلي. تدارك المنظّمون هذا الخلاف على شعار الدولة العلمانية واختاروا أن يرصّوا الصفوف في المرحلة الأولى بشأن المطالب المعيشية التي يتّفق عليها كل من يشارك في هذه التظاهرات، كما على مطلب إسقاط النظام الطائفي. يقول الناشط في اللجنة التنظيميّة لحراك إسقاط النظام الطائفي ورموزه، عمر عاصي: «نريد من خلال ذلك أن نكسب قاعدة شعبيّة أكبر وأن نرفع عدد الخيم المؤيّدة لنا». يضيف إنّ صيدا وطرابلس كانتا أكثر المناطق رفضاً لشعار العلمانية. اتّفق المنظّمون على 31 بنداً في اجتماعهم في 6 آذار، أوّلها «دولة مدنيّة ديموقراطية حرّة»، لبنان دائرة واحدة بحسب قانون النسبيّة، القضاء على الفساد، إعطاء المرأة حقّها في منح الجنسيّة لأولادها، بالإضافة إلى البنود المعيشيّة وغيرها. بعد الاتفاق على الشعارات، برزت على الأرض تباينات في الآراء حول الخطوة التي قامت بها جمعية «شمل». إذ تقدّمت الجمعية بقانون مدني للأحوال الشخصيّة إلى رئيس مجلس النواب نبيه بري، تحت عنوان «قانون لبناني للأحوال الشخصية». وفيما يرى حسن اسماعيل أنّ خطوة «شمل» إيجابيّة، يتساءل عمر عاصي عن جدوى تقديم قانون كهذا إلى «أحد رموز النظام الطائفي، بينما عدد من أمثال هذا القانون لوّثها الغبار في درجه». يضيف عاصي: «في حدا بسقّط حاله؟». لكن مع ذلك، يجمع الناشطون مرّة أخرى على ألا يختلفوا، ويرحّبون نهايةً بأيّ خطوة تأتي في إطار المساعدة. لكن، هل ما حدث في صيدا ينسف الصيغة التوافقية التي أعدّها الشباب في ما بينهم؟ بعد حادثة صيدا، ما زال الشباب يرون أنه ليس هناك خلاف جوهري في ما بينهم، وأنّ ما حدث لم يكن سوى محاولة جديدة من الأحزاب لعرقلة حركتهم وإنهائها.
ويقول عمر إنّه لو تقدّم النائب قاسم هاشم تظاهرتهم لكانوا نعوا حراكهم، وإنّ الأحزاب في البلد عموماً وقوى الثامن من آذار خصوصاً، تحاول خطف الحراك لأهداف خاصة. يضيف: «يرسلون إلينا من يقول إنّه سيفتتح إذاعة للثورة بـ 200 ألف دولار، ثم يدعى النائب قاسم هاشم للمشاركة في تظاهرتنا مثلاً، أو يخطفون خيمة المستقلّين في صور … من دعا النائب وافتعل المشاكل بعدها هم مندسّون بيننا». وبينما يتّفق الشباب على أنّ أيّ شخص يعلن العصيان على الزعيم والأحزاب الطائفيّة، ويقرّر أن ينزل إلى الشارع معهم هو مرحّب به، إلا أنّهم يرفضون بشدّة دعوات الأحزاب المباشرة أو غير المباشرة للمشاركة معهم، فقد دعا مكتب الشباب والرياضة في حركة أمل إلى المشاركة في التظاهرات، بينما شارك الحزب السوري القومي الاجتماعي باسم «الحملة الشبابية والطلابية لإلغاء الطائفية»، كما شجّع الحزب التقدمي الاشتراكي أفراد الحزب على المشاركة فردياً، فيما يرى الحزب الشيوعي أنّ بين المنظّمين أفراداً من الحزب يشاركون بصفتهم الشخصيّة. كلّ من هذه الأحزاب يرى أنّه أوّل من نادى بإلغاء الطائفية السياسية (التي يرفضها المتظاهرون) أو بالدولة العلمانية. بالنسبة إلى مسؤول مكتب الشباب والرياضة في حركة أمل، يوسف جابر، فإنّ مشروع الحركة هو مشروع الإمام موسى الصدر المتمثّل في شقين: المقاومة وإلغاء الطائفية السياسية. بينما يرى مسؤول الجامعات الخاصة في الأمانة العامة لمنظمة الشباب التقدمي، باسل العود، أنّ العلمانية هي مشروع مؤسّس الحزب كمال جنبلاط. نستغرب حينها أن يكون لبنان بلد المحاصصات الطائفيّة! لكن، ما هو تعليقهم على رفع المتظاهرين شعار إلغاء رموز النظام الطائفي؟ يشير جابر الى أنه «ليس لدى الحركة مشكلة بأن يخسر الرئيس بري الرئاسة وأن نربح الوطن في المقابل»، فيما يبدو العود أكثر تحفظاً في مقاربته لهذا الموضوع، معتبراً أنّ لبنان محكوم بنظام ديموقراطي والناس ينتخبون ممثليهم، وإن كان هناك رموز يجب أن تسقط فلتسقط إذاً.

الأحزاب اليساريّة والعلمانيّة عموماً، تبدو الأكثر حماسة لنظام علماني أو مدني (في أسوأ الحالات، بما أنّها لا تخفي أنّ فرصها للتقدّم في البرلمان تتحسّن كثيراً؛ إذ يرى أمين سر عمدة التربية والشباب في الحزب السوري القومي الاجتماعي رامي قمر أنّه إذا طُبِّقت الآليات الثلاث التي وُضعت لإسقاط النظام الطائفي، أي اعتماد قانون مدني للأحوال الشخصيّة، وقانون انتخاب يوحّد لبنان في دائرة واحدة على أساس النسبيّة وقانون جديد للأحزاب، فمن الطبيعي للأحزاب «الوطنيّة اللاطائفيّة» أن تعزّز وجودها على مساحة الوطن، وتضمن النسبيّة كذلك المشاركة لكل المواطنين. يؤكّد ذلك مسؤول العلاقات السياسيّة في قطاع الشباب في الحزب الشيوعي مازن حطيط، مضيفاً أنّه «في النهاية ليس الهدف وصول الحزب إلى السلطة لأننا لا نقوم بانقلاب هنا، بل ما نسعى إليه هو تحسين وضع المواطن في بلده». الأيام المقبلة ستشهد المزيد من التظاهرات لإسقاط النظام الطائفي في لبنان حسب برنامج المنظّمين. وبينما يُنتقَد هذا التحرّك على مواظبته على تنظيم تظاهراته أيام الآحاد، إذ لا ثورة تندلع في يوم العطلة، تتجه الأمور إلى التوسّع ونقل تظاهرة يوم العطلة إلى ثورة حقيقيّة تندلع في قلب الأسبوع، في أربعاء يقرّره المنظّمون لتستمرّ بوتيرة يوميّة.

السابق
أزمة النفايات تلف الجنوب… ولا حلول قريبة
التالي
شباب… من الشباب إلى الشباب