“تأثيـر الغفـل”: العلـم يثبـت جـدوى الـدواء الوهمـي

أثبتت صور الرنين المغناطيسي للدماغ أنّ عدم الاقتناع بمدى فاعلية الدواء يخفّف أو يلغي أحياناً، مفعول ذلك الدواء في الجسم. وتشكّل تلك النتيجة خلاصة لدراسة علميّة، نُشرت في السادس عشر من شهر شباط الفائت في مجلة «Science translational Medicine journal»، وأجراها باحثون من إنكلترا وألمانيا، وهدفها تبيان العلاقة ما بين توقعّات المريض وفعالية الدواء، من خلال تصوير الرنين المغناطيسي للدماغ.
ضمّت عيّنة البحث اثنين وعشرين متطوّعاً، وتمّ خلال الدراسة استعمال دواء مسكّن للآلام، وتسجيل معدّل الألم على مقياس يتراوح بين الواحد والمئة.
في المرحلة الأولى من الاختبار، أعطى الباحثون المريض الدواء عبر الحقن، من دون أن تتاح للمتطوّعين معلومات عن مفعول الدواء، فسُجّل انخفاض في معدّل الألم، من معدّل ستّة وستّين إلى خمسة وخمسين. في مرحلة ثانية، أبلغ الباحثون المتطوّعين بأنّهم سيتلّقون جرعة من دواء مسكّن الآلام، فانخفض مستوى الألم إلى معدّل تسعة وثلاثين.
أمّا في المرحلة الأخيرة من الاختبار، وعلى الرغم من الاستمرار في حقن الدواء، حذّر الباحثون المتطوّعين من أنّهم سيعانون ارتفاعا في معدّل الألم بسبب وقف إعطائهم الدواء، فارتفع معدّل الألم فعلياً ليسجّل أربعة وستّين.
تؤكّد تلك التجارب، بحسب المشرفة على الدراسة البروفسور إيرين ترايسي من جامعة أوكسفورد، أنّ «صور الرنين المغناطيسي للدماغ تفيد بأنّ توقعّات المريض، السلبيّة أو الإيجابيّة، تؤثّر على عمل أجزاء من الدماغ، وبالتالي يجب على الأطباء عدم التقليل من أهميّة العلاج أمام المرضى، ما يؤثّر بطريقة سلبيّة على النتيجة المرجوّة».

«نوسيبو» تستحضر «بلاسيبو»
تستحضر دراسة الـ«نوسيبو»، أيّ عدم استجابة المريض للعلاج بسبب توقّعاته السلبيّة، عمليّة «تأثير الغفل»، التي تعرف باللاتينيّة باسم «بلاسيبو»، التي تهدف إلى تخفيف أعراض المرض من خلال إعطاء المريض مادة شكلها كالدواء، لكنّها لا تحتوي على أية عناصر فاعلة، كحبوب سكّر مثلاً، من دون أن يعلم المريض بعدم فاعليتها. ويسجّل نجاح تلك الظاهرة عند البالغين والأطفال وحتّى الرضّع والحيوانات الأليفة.
ويعود تاريخ «تأثير الغفل» إلى الحرب العالمية الثانية. حينها، لم تتوفر مادة المورفين، فعمدت الممرضة «هنري بيشر» إلى علاج جندي أميركي بحقنة من المياه المالحة، من دون أن تبلغه بذلك، فخفّفت الحقنة البديلة من آلامه بفعّالية. وعند عودتها إلى الولايات المتحدة الأميركيّة، نصحت بيشر السلطات الصحيّة بضرورة المقارنة ما بين مجموعتين من الأفراد، منهم من يتناول الدواء الحقيقي، ومنهم من يتناول دواء الغفل، لمعرفة مدى تأثير الدواء الحقيقي على متناوليه.
وفي العام 1962، ألزم الكونغرس الأميركي الهيئات الصحيّة بضرورة إجراء دراسات تجريبيّة للأدوية بالمقارنة مع دواء الغفل. أما اليوم فقد أصبحت تلك التجارب السريريّة للأدوية بالمقارنة مع دواء الغفل، إلزاميّة للتأكّد من فاعلية الدواء وصحّة اعتماده.

فسيولوجياً.. لا نفسياً فحسب
ربّما يوحي تأثير الغفل بأنه ظاهرة نفسيّة لا أثر فسيولوجيا لها على الجسم. لكن، برهنت الدراسات العلميّة أنّ تأثير الغفل يؤدّي إلى مضاعفات فسيولوجية. ففي العام 1978، نشرت المجلّة العلميّة «the lancet» البرهان العلمي الذي خرج به الباحثون للتأكيد على أنّ «الغفل» يؤثّر على «النظام الأفيوني الطبيعي» في الجسم الذي يتحكّم بالشعور بالألم.
وتشير الاختصاصية في علم الأدوية في كلية الصيدلة في «جامعة القديس يوسف» ليديا خبّاز إلى أنّ نسبة ثلاثين أو أربعين في المئة من الأشخاص تستجيب لتأثير الغفل عامة. وتشرح أنّ تأثير الغفل يشفي أوجاع الرأس بنسبة تتراوح ما بين ستّة وأربعين وثلاثة وسبعين في المئة، كما تشفي أوجاع التهاب المفاصل بنسبة تتراوح ما بين الأربعة عشر والأربعة والثمانين في المئة، وتشفي بنسبة ثلاثة إلى ستين في المئة من أوجاع ارتفاع ضغط الدم، وتخفف بنسبة خمسين في المئة من حالات الاكتئاب. وقد نشرت المجلة العلميّة «Lung» في العام 2010 ما يفيد بأنّ نسبة خمسة وثمانين في المئة من فاعلية بعض أدوية السعال تعود إلى تأثير الغفل، كما أشارت مجلة «Psychomatic medicine»، في العام 2011، إلى أنّ الرجال يعتبرون أكثر استجابة لتأثير الغفل من النساء.

وتفيد الدراسات بأنّ علاقة الثقة بين الطبيب والمريض تؤثّر بنسبة تسعة وسبعين في المئة في بلورة تأثير الغفل، خاصة إن أظهرالطبيب حماسة في وصفه للعلاج.
كما أظهرت دراسة علميّة أنّ لون الدواء واسمه يؤديان دورا في تحديد مدى فاعليته. فعلى سبيل المثال، وعلى الرغم من التشابه في التركيبة الكيميائيّة، فإنّ عقار «باراسيتامول» في العلبة الزرقاء يظهر فاعليّة أكبر من العقار الذي تحويه العلبة البنيّة.
إلى ذلك، يعتبر سعر الدواء عاملاً مؤثّراً في «تأثير الغفل»، حيث أظهر المرضى، الذين أُبلغوا بأنّ الدواء باهظ الثمن، استجابة أفضل لمسكّن الآلام من الذين تناولوا الدواء عينه معتقدين أنّه زهيد الكلفة.
وضمن البحث عن آليات «تأثير الغفل»، تعمّدت مجموعة من الباحثين، إرفاق الدواء بشراب اليانسون عند إعطائه لمرضى مصابين بالتصلّب اللويحي (يسبّب مشاكل في النظام العصبي المركزي). وبعد فترة من الزمن، أُرفق شراب اليانسون بكميّة ضئيلة جداً من الدواء، فأظهرت نتائج الاختبار أنّ ثمانية مرضى من أصل عشرة، تجاوبوا بفعّالية مع تلك التركيبة. ما يعيد التأثير الفسيولوجي لعملية «تأثير الغفل» إلى نظرية الاشتراط التقليدي «Pavlovian conditioning».

السابق
بعد إنقاذ ابنه.. توفي الأب غرقاً
التالي
حماس ونحن والعالم كله