الحالة البحرينية: المواطنة لا المذهبية

على خلفية قضايا سياسية واجتماعية متفاقمة وتقاليد مديدة للمعارضة البحرينية، دفعت ثورتا مصر وتونس الشباب في هذا البلد إلى محاكاة النموذج الاحتجاجي العربي الجديد. وطالبت الشعارات التي رُفعت في هذه الاحتجاجات (14 فبراير/ شباط) بإصلاح وطني دستوري نصّ عليه ميثاق العمل الوطني 2001، بالإضافة إلى مطالبة برفع القبضة الأمنيّة عن الحريات في البلد. وكما كانت عليه الحال في مصر، لا ينتمي هؤلاء الشباب بالأساس إلى أيّ تيار سياسي، وجرى التواصل بينهم من طريق الإنترنت، وهم من الشيعة والسّنّة على السّواء. وقد عبّروا عن رغبة في تأليف هيئة قيادية تمثّل المواطنين من سنّة وشيعة، لكن الخوف من تطور محاصصة طائفية كما في لبنان أو العراق، جعل الشباب يحجمون عن هذا الأمر، ويتركونها للانتخابات لتحدّد قيادتها. وكان هناك حضور لافت للمرأة.

وقد فرضت حركات المعارضة الشيعية نفسها، في النهاية، كقوى سياسية وازنة ومنظمة على حراك شعبي ديموقراطي. فقد انضمّت القوى المعارضة للاحتجاجات منذ بداية الاعتصامات. وهي ما يعرف بالجمعيات السبع (الوفاق، وعد، المنبر التقدمي، العمل الإسلامي «أمل»، التجمع القومي، التجمع الوطني، الإخاء). ومع تصاعد الأحداث أصبح المشهد الاحتجاجي التنظيمي مشغولاً بكتلتين رئيسيتين:
الأولى جمعية (الوفاق الوطني الإسلامية)، وهي التكتل الذي يمثل أكبر تجمع سياسي في البحرين، ولديه حضوره الشعبي القوي. فقد حاز نواب الوفاق 17 مقعداً من أصل 40 في البرلمان البحريني في انتخابات 2006. ويقود الجمعية الشيخ علي سلمان بجانب المرجع الديني علي قاسم. وتتماثل مطالب الوفاق المعروفة مع مطالب شباب «14 فبراير» والمتمثلة في إصدار دستور جديد يجعل البحرين مملكة دستورية، وأن يكون رئيس الحكومة مسؤولاً أمام البرلمان، لا أمام الملك، وأن يكون الساسة المنتخبون هم صانعي القرار في البلد. ويتحالف مع الوفاق في هذا، «التجمع القومي الديموقراطي»، و«أمل»، والأحزاب اليسارية مثل «وعد» و«المنبر التقدمي الديموقراطي». وهي كتل تضم أعضاءً مختلفين من ليبراليين وشيعة وسنّة، رجالاً ونساءً، وكلّهم شاركوا تحت راية الوفاق في الحراك الشبابي الأخير.

والتكتل الآخر هو «التحالف من أجل الجمهورية»، الذي نشأ في السابع من آذار/ مارس 2011 على خلفية الاضطرابات الأخيرة التي شهدتها مملكة البحرين. وكما يتبين من اسمه، يطالب التحالف بإسقاط الملَكية وحكم آل خليفة وإقامة جمهورية في البحرين. ويضم التحالف ثلاث حركات شيعية معارضة للنظام الحاكم: تيار الوفاء الإسلامي، وحركة حق، وحركة أحرار البحرين.
لم تطالب حركة أحرار البحرين في الماضي بإسقاط حكم العائلة الملكية كما تفعل اليوم، إذ كانت مطالبها تتمحور حول الديموقراطية وتحرير المعتقلين. ولم يقتصر رفع سقف المطالب على مستوى هذه الحركة السياسية فقط، بل في أوساط الحركة الشبابية أيضاً. فبعد الأحداث الدموية ليوم الخميس 17 فبراير/ شباط، وسقوط ضحايا من هؤلاء الشباب تحوّلت الشعارات للمطالبة بإسقاط النظام والعائلة الحاكمة. وقد منع بعض الشباب أحد المعارضين السياسيين من أن يكمل حديثه عن مطلب «الملكية الدستورية» في ميدان اللؤلؤة، على اعتبار أنّ الأحداث تجاوزته.

تميّزت حركة الاحتجاج في البحرين عن مثيلاتها في المنطقة العربية بكونها تستدعي إعادة تعريف نظام الحكم والمواطنة من جديد، في بلد ترسخت وتمايزت فيه أنساق عمل سياسي طائفية، عبر فترة طويلة من الزمن. ويجري طرح هذه المهمات الكبرى في أجواء من انعدام الثقة بين الحاكم والمحكوم من جهة، وبين المواطنين في ما بينهم من جهة أخرى، وذلك في حالة شعبية لا تتمتع بتجانس مماثل للذي كان داعماً لثورتيْ مصر وتونس. ولا يقلل هذا الوصف من أهمية الهوية الوطنية البحرينية، لكن من الواضح أنّه سُيِّست انتماءات أخرى.

فرضت هذه الحالة من الشك المتراكم نفسها عبر أجواء تنامي تأكيد الهويات الفرعية المستندة إلى إعادة تعريف الذات على أساس طائفي متوتر، يؤكد المقابلة بين مكونين رئيسيين للمجتمع البحريني هما السنّة والشيعة. أسهم ذلك في ربط المكون الداخلي بالبعد الإقليمي، في عملية تغذية متبادلة، ليس على مستوى الشعب فقط، بل على مستوى النظام أيضاً. والبعد الإقليمي قوي أصلاً مقارنة بالديناميكية الداخلية في دولة صغيرة مثل البحرين.
كان سلوك الدولة البحرينية بعد الاستقلال عام 1971 معززاً للهوية الطائفية الشيعية على حساب الهوية البحرينية الجامعة، وذلك بسبب التمييز بين المواطنين، في ظل غياب الديموقراطية وأسس المواطنة، وبسبب تحكّم الدولة في مزايا الدولة الريعية التي تحتكر موارد النفط والأرض، ما يمكنها من المنح والحرمان، وما يجعلها عنوان اللوم الأساسي على الأوضاع الاجتماعية وغيرها.
وكان تنامي قوى اليسار والعروبة السمة الرئيسة للعمل المعارض في البحرين، في حقبة ما قبل السبعينيات، داخل الأوساط الشيعية والسنية على حدّ سواء. إلا أنّ فرصها تضاءلت، نتيجة السجن والملاحقة اللذين واجهت الدولة بهما هذه القوى، ونتيجة تداعيات نكسة حزيران/ يونيو 1967. وقد حُلّ المجلس الوطني (البرلمان) في عام 1975. وملأت التنظيمات الإسلامية السنية والشيعية الفراغ الذي خلّفته الحركات اليسارية في ساحة المعارضة، كما جرى في أكثر من بلد عربي، مع أخذ التفاوت الطائفي بالاعتبار في حالة البحرين.
ومنذ الثورة الإيرانية عام 1979 انقسمت القوى الشيعية السياسية في البحرين إلى تياريْن: تيار يطالب بإصلاحات مع احتفاظه بهويته الوطنية البحرينية وفي إطارها، وتيار ثوري متأثر بالثورة الإيرانية يطالب بإصلاحات جذرية ويرغب في أن تكون البحرين امتداداً لإيران. وقد توحّدت الجماعات الثورية (الشيعية) في البحرين عام 1979 تحت مسمى «الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين». وظهر التمايز على خلفية تصويت الشيعة للبحرين باعتبارها بلداً عربياً ومستقلاً في الاستفتاء الذي أشرفت عليه «الأمم المتحدة» عام 1970. وحتى من ناحية الأصول الإثنية، التي تؤدي دوراً في الثقافة السياسية في الخليج، ينحدر شيعة البحرين، بغالبيتهم الساحقة، من أصول عربية. وقد أضعفت هذه الحقيقة فرص تبني الخط الإيراني في الحركة الشعبية البحرينية. فالمكوّن الشيعي في البحرين مكوّن عربي بحريني أصيل، غير مستورد، لا من إيران ولا من غيرها. ونجد كذلك أنّ الكثير من أبرز رموز الحركة اليسارية والعروبية، في الخليج عموماً، كانوا من شيعة البحرين.
وقد غُذّي النفوذ السياسي للمعارضة الشيعية في البحرين عبر السنوات، نتيجة سياسات التمييز التي مارستها السلطة الحاكمة بحق المواطنين من أصول شيعية، ونتيجة لغياب مفهوم موحّد ومتساو ٍللمواطنة. فمن بين الوظائف العليا في البلاد، لا يشغل الشيعة، الذين يمثّلون معظم السكان (60-70%)، سوى 17% من هذه الوظائف. وما يزيد من السخط الاجتماعي المتحول بسهولة إلى نقمة طائفية، أنّ نسبة البطالة في البحرين التي حققت نجاحات اقتصادية وعلى مستوى الحريات تبلغ 19%، وهي نسبة مرتفعة ويعاني منها شباب شيعة وسنة، على السّواء.

دفع هذا التمييز، مقترناً بملاحظات على مستوى حقوق الإنسان، إلى زيادة الاحتقان، وهو ما حدا الحكومة إلى محاولة تبني بعض الإصلاحات. وقد أُقرّ ميثاق العمل الوطني الصادر في 15 شباط/ فبراير 2001 الذي تضمّن مبادئ عامة للإصلاح السياسي والتحوّل الديموقراطي، وحدد نظام الحكم بـ«وراثي دستوري»، وأنّ الشعب مصدر السلطات الثلاث. وحصلت هذه المبادئ على تأييد 98.4% بنسبة مشاركة وصلت إلى 90.3% من البحرينيين. وكان إعلان إجراء انتخابات برلمانية في تشرين الأول/ أكتوبر 2002 من أهم ثمرات هذا الميثاق، لكن الدستور الصادر بموجبه جاء مخالفاً للمبادئ التي تضمنها، فقد منح صلاحيات مطلقة للملك.

وتتكثّف موضوعات الاحتجاج لدى المعارضة في البحرين في مسألة التّجنيس، التي ترمز بحدّة إلى وجود نوعين من المواطنين. وقد جنّست الحكومة البحرينية نحو 100 ألف مهاجر مسلم سني، بعضهم من أصول عربية ومعظمهم من العمالة الباكستانية، وتقرر قبولهم حتى في خدمة الأمن الوطني، ما زاد من الاحتقان الطائفي. وترى مصادر بحرينية في الخارج أنّ من حصلوا على الجنسية البحرينية، في العقد الأخير، ينتمون إلى 24 بلداً، لكنّهم جميعاً من المسلمين السنة.
بالنسبة إلى العلاقات الإقليمية، تتجاوز الاستثمارات السعودية في البحرين 700 مليون دينار، أمّا نسبةُ الاستثمارات المملوكة من الشركات السعودية المسجّلة في البحرين فقد بلغت أكثر من مليار دينار بحريني. فيما بلغ عدد الشركات الفاعلة التي فيها استثمار سعودي نحو 315 شركة، بينما بلغ عدد الشركات السعودية العاملة والمسجّلة في البحرين 43 شركة. وقد قرّر وزراء خارجية التعاون في اجتماعهم المنعقد في الرياض بتاريخ 10 مارس/ آذار 2011 تقديم 10 مليارات دولار دعماً مالياً للبحرين على مدى 10 سنوات. وفي الاجتماع الطارئ (الدورة الاستثنائية الثلاثون)، الذي عُقد في المنامة بتاريخ 14 مارس/ آذار 2011، تقرّر تقديم الدعم الأمني للبحرين ورفض أيّ تدخل خارجي.
ترتهن الحكومة البحرينية للحماية الأميركية باستضافة مقر قيادة الأسطول الخامس، الذي يترتب عليه توفير الحماية من الخطر الخارجي أو الداخلي على النظام الملكي، وهو سياق يثير سخط الإسلاميين، سواء من الشيعة أو السنة.
والخطر الذي تمثّله أزمة الهوية والانتماء في البحرين، وغياب الإصلاحات الديموقراطية وعدم وجود نية لتحقيق الإصلاحات، جعلا النظام البحريني يمضي أبعد من الرهان على القوة العسكرية الأميركية، من حيث تعميق العلاقات الاقتصادية عبر توقيع اتفاقية التجارة الحرة مع الولايات المتحدة عام 2005، رغم اعتراض السعودية على انفراد البحرين بالاتفاق من دون الدخول مع مجلس التعاون باعتباره طرفاً تفاوضياً مشتركاً مع واشنطن.

واتخذت البحرين كذلك خطوات أبعد في ضمان الحماية الأميركية، عبْر تشجيع سياسة التطبيع مع إسرائيل علناً ومن دون تحفّظ، ومن ذلك ما قام به وليّ لعهد البحريني الأمير سلمان بن عيسى من مبادرات عبر مقال نشره في صحيفة «واشنطن بوست» في 17/7/ 2009 داعماً التطبيع مع إسرائيل. وسبق ذلك لقاءات تطبيعية في مؤتمرات دافوس، بل ودعوة اللاجئين الفلسطينيين إلى العودة إلى الضفة وغزة، لا إلى أراضي 1948، فضلاً عن منح الأقلية اليهودية في البحرين، التي لا تتجاوز 37 فرداً، حقوق التمثيل في مجلس الشورى، وتعيين سفيرة بحرينية يهودية في واشنطن. ولا ضير طبعاً في المواطنة المتساوية لليهود في البحرين، لكن من الواضح أنّ هدف هذه الخطوات كان استرضاءَ الولايات المتحدة وإثارة إعجابها عبر اللوبي الصهيوني فيها. وهذه جميعها عوامل أدّت إلى زيادة الاحتقان في الأوساط الشعبية، ودفعت إلى تبني اتجاهات أكثر تطرفاً ضدّ النظام.

صدرت عن إيران تصريحات عدّة تعدّ البحرين جزءاً منها، مثل تصريح رئيس مجلس الشورى الإيراني السابق أكبر ناطق نوري في بدايات عام 2009، ونُفيت هذه التصريحات لاحقاً وفُسّرت على غير ما أراد المتحدث. وقال المرشد الأعلى للجمهورية الإسلامية الإيرانية في خطبة الجمعة ليوم 11 شباط/ فبراير 2011 إنّ الثورات العربية تستلهم روح الثورة الإيرانية. وهذا طبعاً اجتهاد تحليل يمكن الاتفاق أو الاختلاف معه. لكن ما يهم البحرين أنّه في غياب إمكان تدخّل عسكري إيراني أو حتى أمني بوجود الأسطول الخامس، وباعتبار البحرين جزءاً من الجزيرة العربية، يبدو أنّ المدخل الباقي للنفوذ الإيراني يتمثل في التكتل الجديد «التحالف من أجل الجمهورية»، الذي أعلن في بيان له أنّه يتضامن مع مطالب الشباب. ومن الواضح بعد التجربة العراقية، كيف يمكن أن يتغلغل النفوذ الإيراني في دولة عربية. وقد أكّدت تصريحات المالكي بخصوص الأوضاع في البحرين، وكذلك تظاهرات أتباع مقتدى الصدر، المخاوف من بُعدٍ طائفي شيعي. فلم يُعرف عن المالكي والصدر موقفٌ ديموقراطي، ولا متضامن مع القوى الديموقراطية الأخرى في المنطقة، بما فيها إيران.
دخلت قوّات «درع الجزيرة» إلى البحرين بطلب من النظام في المنامة، متذرّعةً باتّفاقية الدفاع المشترك الخليجية الموقَّعة في العاصمة البحرينية في كانون الأ
ول/ ديسمبر 2000. فقد اتّفق قادة دول مجلس التعاون الخليجي الستّ، حينها، على مبدأ الدفاع الجماعي ضدّ أيّ خطر يهدّد أياً منها. وكان إنشاء قوّات درع الجزيرة في نوفمبر/ تشرين الثاني 1982 في الأساس، وسيلة من وسائل تحقيق الدفاع المشترك. ومن منظور عربي، لا يُعَدّ هذا الدخول تدخلاً دولياً، فهذه التعابير يُحتفظ بها عادةً لتدخّل الدول غير العربية. لكن من الواضح أنّه إذا لم تعالج الدولة أسباب الاحتجاج والاستياء، فإنّ التدخل العربي الخليجي لن يكون ممكناً في كلّ أزمة مقبلة ستولّدها الأوضاع وطبيعة النظام.

تبقى الآن مسألة الشارع والاحتجاج الشبابي في البحرين، وما إذا كان تصاعد الأحداث عبر قمع الحكومة وتدخل قوات «درع الخليج» قد جعله ينتقل مؤقتاً فقط، ونتيجة للغضب، إلى تبني مطالب يتعاضد فيها مع مواقف التحالف من أجل الجمهورية، أو أنّه سيبقى ملتصقاً بمطالبه الإصلاحية التي بدأ الاحتجاج عبرها، والتي كانت تنسجم مع مسار كتلة الوفاق. وقد أعلنت كتلة الوفاق عبر بيان لها الأحد 20 آذار/ مارس أنّها مستعدة للعودة إلى الحوار الذي دعا إليه ولي العهد، شرط الإفراج عن كلّ المعتقلين وأن تنسحب «القوّات الأجنبية» التي دخلت إلى أرض البحرين. ويبدو أنّ كتلة الوفاق لا تملك خياراً آخر تتعامل عبره مع الدولة.
أيّ إصلاح مقبل في البحرين لا يتطلب من النظام صدقاً فقط، بل يقتضي إدراكاً لجدية المطالب الجماهيرية أيضاً. ولا يمكن نظاماً أن يحكم فترةً طويلة ضدّ إرادة أكثر من نصف الشعب. لكن من الناحية الأخرى، لا بدّ أن تحسم المعارضة أيضاً مسألة المواطنة والمواطنية العربية البحرينية والتوقّف عن الرهان على دولة إقليمية غير عربية. ولأجل هذا، يجب أن تدرك المعارضة أنّ الأغلبية المذهبية الشيعية يجب ألا تعني بالضّرورة أغلبية سياسية إذا كانت المواطنة متجانسة فعلاً. ومن دون المس بحقّ المواطنين في تنظيم أنفسهم، فإنّ الأمانة العلمية تفضي إلى الحكم أنّ السبيل الأفضل للديموقراطية هو التنظيم أو الحراك القائم على المواطنة، لا على الانتماء المذهبي.

السابق
التدخين.. في غياب الرادع
التالي
“ناقصن”