لم يتحمّل اي ميعاد زمني هذا الحجم من التأويل والضجيج والصراخ والخلافات والدماء بقدر تاريخ 14 آذار، الذي كان يفترض ان يمر مثل كل ايام السنة، لولا حوادث طبعته وجعلته موضع اتفاق ونزاع لا ينتهيان بين اللبنانيين، لتستمر مفاعيله كل يوم وعبر مختلف مظاهر الحياة.
واذا كان اللبنانيون يجمعون على رفض الاحتلال الاسرائيلي، إلا ان رفض “الاحتلال السوري” الشقيق كان سبباً للنزاع والقتال على حد سواء بين اللبنانيين، اذ انبرى قسم لا يستهان به منهم الى مقاومة الجيش السوري لاجباره على الجلاء عن الاراضي اللبنانية تحقيقاً لعنوان “السيادة والحرية والاستقلال”. واذ بقسم آخر، لا يستهان به ايضاً، يتمسك ببقاء الجيش السوري في لبنان بذرائع مختلفة بلغت ذروتها عبر توقيع معاهدة “الاخوة والتعاون والتنسيق” التي شبهها عميد الكتلة الوطنية الراحل ريمون اده بـ”الانشلوس” او ضم النمسا الى المانيا النازية بقوة السلاح والهيمنة. وبين رفض الاحتلال الاسرائيلي ومقاومة “الاحتلال السوري” كان التاريخ الاخير لـ14 آذار 2005، العام الذي شكل محاولة يائسة من اللبنانيين للتخلص من الهيمنة السورية المزمنة على بلادهم، والتي نجحت بقوة الحشد الشعبي المليوني في تحقيق هذا الهدف، لكنها قصرت عن تحقيق الاجماع على بناء الدولة وانجاز الوحدة الوطنية وإقامة الادارة التي يطمح اليها اللبنانيون.
ثلاثة عناوين جامعة للرابع عشر من آذار:
14 آذار الاول، ذكرى الاجتياح الاسرائيلي للجنوب (في 14 آذار 1978) والذي نجم عنه القراران الشهيران 425 و 426. في ذلك التاريخ شنت اسرائيل ما عرف لاحقاً بـ “عملية الليطاني” عندما هاجم 25 الف جندي اسرائيلي الجنوب من محاور عدة، تحت عنوان ابعاد التنظيمات الفلسطينية المسلحة الى شمال نهر الليطاني. وتسبب الهجوم بخسائر مادية وبشرية فادحة وتهجير حوالى 300 ألف مواطن في اتجاه الداخل اللبناني، اضافة الى مقتل وجرح حوالى 2000 مواطن، استناداً الى الارقام التي نشرتها السلطات اللبنانية، وتدمير قرى بأكملها. ادى الاجتياح الاسرائيلي الى اصدار مجلس الامن التابع للامم المتحدة القرار الرقم 425 والقرار الرقم 426، داعياً إلى انسحاب القوات الإسرائيلية مِن كل الاراضي اللبنانية والى نشر قوات الطوارئ الدولية المؤقتة في جنوب لبنان (اليونيفيل) لتنفيذ القرار الدولي والتأكد من الانسحاب الاسرائيلي الذي استمر مؤجلاً الى العام 2000، تاريخ انسحاب القوات الاسرائيلية نهائياً من جنوب لبنان.
لاحقاً، وبعد انتهاء الحروب المحلية في لبنان، اطلقت الحكومات اللبنانية فاعليات “يوم التضامن مع الجنوب والبقاع الغربي” بدفع من رئيس حركة “امل” نبيه بري، الذي اصبح رئيساً للسلطة الاشتراعية، بهدف التذكير باستمرار الاحتلال الاسرائيلي للشريط الحدودي في الجنوب. ودأبت السلطات اللبنانية على التذكير بأمر 14 آذار 1978 بأشكال عدة اعلامية ودعائية سواء بالاحتفالات والتحركات الشعبية او الحملات الاعلامية التي اتخذت اشكالاً عدة، كان منها انتاج دخان 14 آذار، خصوصاً ان نبتة التبغ تسمى “شتلة الصمود” بسبب زرعها في جنوب لبنان بكثافة واهتمام قسم لا يستهان به من العائلات الجنوبية بهذه الزراعة التي تنتشر على امتداد الحدود الجنوبية للبنان مع شمال فسطين (…).
“حرب التحرير”
14 آذار الثاني يتمثل في ذكرى ما يسمى بـ”حرب التحرير” التي اعلنها آنذاك رئيس الحكومة العسكرية الانتقالية العماد ميشال عون (في 14 آذار 1989)، تحت عنوان مواجهة الجيش السوري في لبنان واجباره على الانسحاب وتطبيق القرار الدولي 520 الصادر عن مجلس الامن. لكن الحرب التي استهلت بقصف عشوائي عنيف بالمدافع الثقيلة على منطقة الاونيسكو الآهلة في بيروت وادى الى وفاة عشرات المواطنين الابرياء وخسائر ضخمة في الممتلكات، انتهت الى كارثة انسانية وسياسية على المسيحيين بكل ما تعنيه الكلمة من معان، ذلك ان “حرب التحرير” بلا اي مساندة اجنبية وفي ظل انعدام التكافؤ في القوة العسكرية والسياسية مع النظام السوري وحلفائه في لبنان، سرعان ما تحولت حرب استنزاف مدمرة صبت خلالها المدفعية السورية الثقيلة المتفوقة بأضعاف حممها وراجماتها على المناطق المسيحية، التي كانت تحتضن الحكومة الانتقالية العسكرية وتتبنى شعارات السيادة والحرية والاستقلال وتساندها تقليدياً.
وتطورت الامور من القصف المدفعي الذي دمر غالبية البنى الاقتصادية والاجتماعية في المناطق الشرقية الى حصار بحري محكم فرضته البحرية السورية بقوة صواريخها ومدفعيتها وراداراتها على مرافئ المناطق المسيحية التي كانت تؤيد عون، ما ادى الى ازمة حقيقية اعادت معها شبح المجاعة وذكريات الحرب العالمية الاولى و”السفربرلك” الى المسيحيين الذين وجدوا انفسهم على الحضيض نتيجة “حرب التحرير” بعدما كانت مناطقهم تعيش في اوضاع مقبولة مقارنة مع المناطق الاخرى. وأدت حال الانهاك المسيحي هذا الى تطور الامور وتدخل المجتمع الدولي الذي ضغط، مع الدول العربية، في اتجاه التوصل الى حل، فكان ان أبصر النور اتفاق الطائف الذي أدى الى جملة ترتيبات سياسية كان أبرزها إضعاف موقع رئاسة الجمهورية واستبدال النظام الرئاسي بنظام الترويكا الهجين الذي أثبتت التجارب فشله في تأمين الاستقرار للبنان.
حرص انصار العماد ميشال عون على احياء ذكرى “حرب التحرير” رغم كل النتائج المأسوية التي ادت اليها، ومثل الاحتفال بهذا اليوم حدثاً في تاريخ الحركة العونية نظراً الى ما كانت تمثله الذكرى من رفض لاستمرار الاحتلال او الوصاية السورية على لبنان. وكان تاريخ 14 آذار قبل العام 2005 موعداً لاستنفار اجهزة النظام الامني السوري – اللبناني المشترك ومطاردة موزعي المناشير وكتّاب البيانات التي تطالب بالحرية والسيادة والاستقلال وجلاء الجيش السوري عن لبنان وتحرير المعتقلين اللبنانيين في السجون السورية وترسيم الحدود بين البلدين وغيرها من الامور. وللتاريخ استمر مناصرو “التيار الوطني الحر” في احياء هذه الاحتفالية النضالية الى حين جلاء الجيش السوري عن لبنان بفعل القرارات الدولية ونتيجة الانتفاضة الشعبية المليونية في 14 آذار2005، التي، وإن شكل العونيون “الدينامو” الاساسي لها، إلا انهم انسحبوا لاحقاً من حركتها ليتخلوا تدريجاً عن مطلب معرفة مصير المعتقلين وترسيم الحدود وحل مشكلة سلاح الميليشيات والسلاح الفلسطيني خارج المخيمات وداخلها وغيرها من الامور. وكان اعلانهم “ان سوريا انسحبت من لبنان وان ذلك يكفي لاستعادة السيادة”، وان النزاع يجب ان ينتقل لانتزاع حقوق المسيحيين في الدولة وتحقيق التوازن.
ثورة الارز
14 آذار الثالث: ذكرى التظاهرة المليونية في وسط بيروت للمطالبة بانسحاب الجيــــش السوري واستعادة السيادة والاستقلال ومعرفة الحقيقة في جريمة اغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه في 14 شباط 2005.
ثمة تفسيرات عدة لنزول مئات آلالاف من اللبنانيين الى وسط العاصمة بيروت في ذلك اليوم التاريخي الذي لم يشهد له لبنان مثيلاً وسبق انتفاضة الشعوب العربية ضد انظمتها بست سنوات، في ما يشبه العامية الشعبية.
واستناداً الى بعض الآراء استفزت التظاهرة التي نظمتها القوى الحليفة لسوريا في 8 آذار2005 بقيادة “حزب الله” مشاعر غالبية اللبنانيين بشعاراتها وصورها ولافتاتها وخطاب “شكراً سوريا”، اضافة الى اعلان امين عام “حزب الله” السيد حسن نصرالله “ان لبنان ليس اوكرانيا”، ما دفع بحشود اللبنانيين الى النزول الى الشارع لاثبات الرفض لكل شعارات 8 آذار.
وثمة رأي آخر يرى ان غالبية اللبنانيين ضاقوا ذرعاً بتحكم النظام السوري برقابهم ومصيرهم وارادوا ايصال رسالة الى كل من يعنيه الامر بأنهم يريدون العيش بحرية في بلادهم ودون وصاية، وجاءت القرارات الدولية واغتيال الرئيس رفيق الحريري ورفاقه لتشكل دفعاً.
ولكن أياً كانت النظرية او التفسير للحشد المليوني في 14 آذار، الا ان جماهير اللبنانيين التي نزلت لم تلبث ان “خُذلت” على يد السياسيين الذين تولوا دفة الامور، اذ لم يكد ينقضي وقت قليل على فوز لبنان بسيادته واستقلاله الثاني، وجلاء الجيش السوري عن اراضيه، حتى اخذت الالاعيب وعملية تقاسم الجبنة تقوض اركان الاستقلال الثاني تدريجاً لمصلحة استعادة او استدراج الهيمنة السورية، مضافة اليها الهيمنة الايرانية على لبنان.