هنا يوسف.. معلمة الزمن الجميل: ماذا تقول عن جيل اليوم؟

انطلاقا من اهتمامنا بإثارة الملف التربوي في هذا العدد، إرتأت أن تقدّم من خلال اجراء لقاء مع معلمة مارست مهنة التعليم على مدى 36 سنة ولا زالت مسيرتها مستمرة، مما خولها لأن تعطي صورة عن الفروقات بين تعليم الأمس واليوم، اضافة الى نوعية الأجيال التي تتخرج من تحت أيدي جيل اساتذة اليوم، وعما كان عليه الحال فيما مضى، وعن مطالب الاساتذة، إضافة الى الانقسام الحاد في المجتمع المدرسي وتغلغل الطائفية اليه. تروي لنا المعلمة والمربية “هنا يوسف” تجربتها الطويلة من خلال هذا الحوار الذي تؤكد فيه على ضرورة بناء الدولة المدنيّة منعا للتفرقة…

بطاقة تعريف
هنا يوسف- ابنة بلدة شقرا- معلمة في الصفوف المتوسطة – اختصاص جغرافيا.

في أية مدارس بدأت ممارسة التعليم؟
بدأت التعليم في بلدة الغسانية الرسمية، ومن ثم في مدرسة البابلية الرسمية- والغازية الرسمية- وعين الحلوة الرسمية المتوسطة.

لأية مرحلة؟
علّمت المرحلة المتوسطة، فقط في البابلية علّمت المرحلة الابتدائية.

كيف تصفين تلامذتك في تلك المرحلة؟
التعليم في البابلية كان جدّيا، وكان أفضل مقارنة بالبلدات الأخرى حيث خرّجت مدرستها مهندسين وأطباء ومعلمين ومهنيين كون الاساتذة كانوا جديين والادارة صارمة. أما في الغازية فقد شعرت بانحدار المستوى، وذلك ما بين عامي 1978- 1986. وكان المدير يحاسبنا باستمرار. اما المرحلة الثانية فكانت من العام 1987 الى العام 2012 وهي مرحلة انحدار المستوى عند الطلاب ورسوبهم. فقد وصل طلاب أميين الى المرحلة التي ادّرسها. كنت وتلامذتي من جيل واحد. أما اليوم فالمعلم لا يملك خبرة التعليم والتواصل مع الطلاب، ولا الثبات، وفاقد الخبرة في ادارة الصف، رغم انه خريج جامعي. مع الاشارة الى أن الدورة التأهيلية التي أقامتها وزارة التربية للأساتذة المتعاقدين لم توصل الى نتيجة جيدة. فالاستاذ، سابقا، كان مربيّا ومعلما ومناضلا. ورغم كل هذا، لازلت اعتقد ان التعليم هي المهنة الوحيدة التي لم “تتخردق” حيث ان الاستاذ لا يغش ولا يرتشي،- على الاقل على صعيد مدرستي ومحيطي- ولم تصبه أمراض موظفيّ الوزارات الاخرى. وكوني عضوا في الرابطة أعرف معاناة زملائي، حيث تم اليوم الاتفاق على سلسلة الرتب والرواتب. وكنا، أنا وكل زملائي، في الرابطة ضد ايقاف الامتحانات لأن هؤلاء التلامذة هم أولادنا.

الصورة الجميلة لأستاذ جيل الثمانينات لا زالت محفورة في ذاكرتنا، هل يمكنك ايراد بعض المواقف المتعلقة بتلك المرحلة، في علاقتك بالتلاميذ؟ وبالادارة والتي تعتبر معبّرة عن تلك الصورة المميزة؟
في العام 1978 كنت حاملا بإبنتي البكر رؤى، وبدأت مع بزوغ الفجر علامات الطلق تظهر عليّ، وكان زوجي يعلّم مادة العلوم لصفوف البريفيه، فقصد المدرسة في البلدة ليأخذ إذنا من المدير محمد حرب، لكن الأستاذ محمد حرب استبقاه بحجة انني حامل بولديّ البكر، وولادتي متأخرة، علما أن المستشفى تبعد مسافة 20 كيلو تقريبا. فدخل زوجي صفه وأعطى دروسه للطلاب حتى نهاية الدوام. وظللت أتمشى حتى انتهى من دوامه. وعندما طلبت تقريرا طبيّا قال لي المدير اطلبي اجازة، فكان ان تقاضيت نصف راتب آخر الشهرأي 170 ألف فقط.

تخرّجت من دار المعلمين كمعلمة، هل يمكن العودة الى تحركات المعلمين خلال تلك الفترة، والتي تُعد ذهبيّة؟

تخرجت في العام 1974 من دار المعلمين، وكانت التحركات لتحسين الوضع المادي والطبابة، وكان الاستاذ يأخذ بدل تعويض 100% فصار يأخذ 75%. كما ان منح التعليم خفضّت. وكان الموظفون يناضلون لتحقيق مكاسب ايضا. وبقينا، نحن المجازون، نناضل لسنوات حتى أُقرّ القانون. وباعتزاز أقول انه لولا بهيّة الحريري لما حصلنا على أربع درجات، وذلك قبل أن تصبح وزيرة تربية. واعتبرنا ذلك نصرا للمجازين الذين قضوا سنوات، اضافة الى بدلات النقل التي أقرّت. وأقول لو ان الدولة اللبنانية تحب استاذتها لكانت دفعت لهم بدل النقل، ووفرت أعطال وتغيّب. فيوم أقرت الدرجات الاربع كنا فرحين جدا ومنطلقين، وبسبب اقرارها لم نعد نلحظ تغيّب أي أستاذ. هذه الحوافزتُسعد الاستاذ. ولكن للاسف لكل انسان في لبنان صار عنده دولة في بيته، اذ عليه ان يؤّمن لنفسه المياه والكهرباء والطرقات والتعليم…

واجهتم السلطة كأساتذة، ولكنكم كنتم منضوين تحت عناوين يسارية متنوعة، هل ساعدكم ذلك في تحقيق بعض المطالب؟ وما هي؟
لا أعتقد، على كل حال اليساريين ساعدوا لكونهم كانوا الطليعة.

تعرّفت على الاستاذ حسين حرب خلال تلك المرحلة، كانت الهموم الوطنية بينكما هي من المشتركات، هل يمكن تلخيصها؟
تعرفت عليه عند تعيني أي بعد سنة من التعليم، وكنا أستاذيين حزبيين، لكن هو كان في منظمة العمل الشيوعي وانا كنت في الحزب، وأخذنا القرار بترك العمل الحزبي في العام 1979عندما توضحت لنا صورة العمل الفلسطيني، اي عندما بدأت الاموال والتموين وتوزيع الحصص تدخل الى الاحزاب الشيوعية، وعرفت ان هذا ليس ما تعلمّناه. واليوم التاريخ يُعيد نفسه. عندما جاء المال الليبي الى الأحزاب الشيوعية انحدر مستوى هذه الاحزاب. وصرنا اليوم نقديين، فهذا البلد لا يُعاش فيه الا تحت اطار فكرة لا غالب ولا مغلوب. وأنا اعلّم طلابي على قبول الآخر مهما كان مختلفا عني، انا افتش عن دولة واحدة. فقد زوّجت بناتي الثلاث زواجا مدنيّا الاولى من ماروني، والثانية من بلجيكي، والثالثة من سني. وأنا أدير بيتي كما أدير صفيّ. علما أني اعلم ان لزوجي مكاسب طبيعية حصل عليها من مجتمعه الذكوري.

أين تجدين تلامذتك اليوم؟ وهل أثمرت جهودك الوطنيّة في تخريج أجيال غير متعصبة وغير طائفية؟
نعم، يوجد عندي طلاب من كل الطوائف. وطلابي الاوائل صاروا زملاء لي ويعملون اليوم في كافة انواع المهن والاختصاصات، فالجيل الاول لديه حس اخلاقي عالي. فعندما التقي بأحدهم يسبقونني بالتحية، أما طلاب اليوم فينظرون اليك نظرة شذراء، فيها تعالي.

هل تعلنين فشل جهودك، خاصة اننا بتنا نرى بأم العين التشدد والتطرف لدى جميع الجهات؟
نعم، أكيد. لا أرغب ان يكون الوضع كذلك، فكل عملنا ذهب هباءا. لكن علاقتي بزملائي ممتازة، وهم متنوعون وانا انتقد طائفتي قبل ان انتقد غيرها. ولا زلت أعيش في عالم الرحابنة. لم أفكر بالسفر لأني لا أريد أن أترك البلد. أنا أعتبر ان هذا البلد لي، أما المتعصبون والمتشددون فهم غرباء عنه.

أين تجدين نفسك اليوم؟ مع أي من القوى الموجودة على الساحة؟
لست مع أحد، أكيد لست مع 8 آذار ولا مع فكر 14 آذار، ولكني ألتقي مع جماعة 14 آذار فيما يتعلق بمؤسسات الدولة.

هل تعتقدين ان دور الاستاذ سابقا- حيث كان مربيّا ومعلما معا- لا زال موجودا الان؟
لا، تغيّر كليّا، فقد صار مؤديّا، يُوصل المعلومة ولا علاقة له بالأشياء الأخرى.

وما هو رأيك بالقطاع التعليمي الذي يُعتبر مقبرة الليسانسات؟
أكيد. لأن مجالات العمل ضيقة جدا في لبنان. فالتعليم يؤّمن حياة المعلم المثبّت، فراتبه يعينه أمام هذه الازمات التي نعيش. وهذا السعيّ نحو الراتب أوجد حالة من الفقر في الابداع والمبدعين والمفكرين. اليوم ثمة فقر بسبب الإنترنت، صرنا عبارة عن “روبوت”، فلم نعد نفكر ولم نعد نُعطي، ولم يعد لدينا وقت للتفكير. فقط ابقينا على التواصل الالكتروني.

لماذا لم تكتبي عن تجربتك الطويلة في قطاع التعليم؟
لم أكتب لان اختصاصي علميّ. ولكني نادمة لاني لم احتفظ بأسماء ودفاتر علامات طلابي كونهم صلة الوصل التي كانت ستبقى بيننا.

وكيف تصفين تحرّك الاساتذة المتعاقدين؟
دائما نأخذ طلابنا رهينة، وهي ذريعة مؤلمة لنا قبل غيرنا. ولكن وزارة التربية والدولة اللبنانية لم يتركوا للصلح مكان، ولكن نحن نتألم عند اتخاذنا قرار المقاطعة لاننا نحب طلابنا ونعيش معهم أكثر مما يعيشون مع أهلهم. لكننا مضطرون لفعل ذلك، فأي مهنة يتقاضى عمالوها أكثر مما يتقاضى الأستاذ.

هل سيُثمر هذا التحرك في ظل التجاذبات السياسية؟ علما ان هذه التجاذبات كانت موجودة لكن تحت عناوين (يسار– يمين)؟
أثمرت تحركاتنا إقرار سلسلة الرتب والرواتب، لكن لم تحدد قيمة الدرجة بناء على وعد من اللجنة البرلمانية وهذا يدلّ على نيّة الأساتذة الحسنة.

على ماذا تشتغل هنا يوسف اليوم؟ على الذات؟ الأحفاد؟ المجتمع التعليمي؟ الهموم المطلبية للأساتذة؟
أشتغل على ذاتي، كممارسة الرياضة يوميا لمدة 3 ساعات، وأقرأ كثيرا، وأتسلى بالكلمات المتقاطعة لتنشيط الذاكرة، وأتابع قضايا المعلمين وأحب المطبخ، وانا إنسانة اجتماعية بطبعي لكن الاوضاع السياسية أثرّت على علاقاتي فبتُ أتجنّب التواصل مع البعض حتى لا نختلف، وأتواصل مع بناتي اللواتي يتخصصن في الخارج يوميا.

السابق
إلى صديقنا وزميلنا عساف أبو رحال
التالي
غزة قطعةٌ من الوطن