تشابه الحركات الإسلامية في الأصول الدين والدولة ضدان

«الإسلام دين ودولة»، أو، «الإسلام دين لا دولة»، أو، «في منزلة بين المنزلتين». حدث أن كان الإسلام ديناً بلا دولة، مراراً، وحدث أن كان ديناً وسلطة. حيث كان الإسلام دين المؤمنين، قناعة أو إرثاً، فيما السلطة مفروضة بالعسف ومغتصبة بالقوة ومحتمية بالدين، كي تحظى بشرعية منسوبة إلى الله، والله مقيم في تعاليه، لا يمت للسلطة، لا بنص ولا بإشارة.

من حق المسلم أن يعتقد أن الإسلام دين ودولة. هذا حق مقدس، تفرضه الحرية. حرية المعتقد وحرية التفكير. باب الحرية ليس موصداً في وجه الدين، أي دين. الدين والحرية، (إن تصالحا، كان المشهد مدهشاً في إنسانيته). بشرط أن يكون تعريف الحرية بجوهرها وفعلها. لا بالموجبات الدينية التي تحد غالباً من اتساع مساحة الحرية. لا محاولة مع الحرية ولو كان ذلك من باب فروض التقليد الديني بصيغته المنغلقة. ففي الدين ما يشرع للحرية وفيه، إن شئت، ما يمنعها، والتاريخ شاهد على المنح والمنع، في كل الديانات السماوية والمختلفة عنها.
من حق المسلم أن يعتقد أن من واجبه العمل على أن يكون الإسلام مجسداً في دولة ومطبقاً في تشريعات وحدود ونظام عقوبات. وهذا حق لا يفترض على أحد إنكاره، لأن من طبيعة الرسالات والعقائد والدعاوى التبشيرية أن تقرن الفكر بالعمل… هذا حق المسلم، بشرط ألا يفرض ذلك، أو يلزم من ليس على معتقده بذلك، أو أن يتحول الاعتقاد إلى فعل أمر وأفعال تهديد، بالقول قبل الفعل، واعتبار نفسه ديّاناً يدين من لا يسير على منهجه، بالكفر والزندقة والخروج والإثم والخطأ… المؤمن، مهما تسامى في إيمانه، هو بشر. ومن كان بشراً، يخضع لقانون البشر الأبدي، والقانون هذا، يؤكد أن حجم الأخطاء التي يرتكبها الإنسان، فكراً وعملاً، أكبر بكثير من أفعال الصواب، والحروب أكبر دليل على ذلك. فلا يعدو أن يكون تاريخ البشرية، بأديانها ومن دونها، هو تاريخ المعارك والحروب والمجازر… إن التواضع يفرض على المؤمن أن يهتم بإيمانه ويصونه في ذاته، ولا يحق له فرض نمطه الإيماني على أنماط الإيمان الأخرى، في دينه أو في ديانات أخرى.
المؤمن حر بحدود الإيمان، مقيد بحدود الحرية، وتحديداً، بحرية الآخرين، في أن يؤمنوا بما يناسبهم وأن يعملوا بما يريحهم، بشرط ألا يصاب أحد بأذية مادية أو معنوية.
المؤمن حر في أن يعتقد ويبشر، وليس حراً في أن يخوض بسلاح الإيمان، وهو سلاح مغرٍ، معركة التغيير بالقوة. هنا لب المشكلة. والبحث فيها، لا يجديه جدل ونقاش تأسيساً على المرجعية النصية، كأن يكون النص أو الاجتهاد أو الفقه هو الأساس في نقاش، عما إذا كان الإسلام ديناً ودولة، أم ديناً فقط. مثل هذا النقاش، لا يفضي ولن يفضي إلى خلاصات يُتفق عليها. فكل غوص في المرجعية وكل اجتهاد في نص وكل استناد إلى حديث، هو في المحصلة، محطة خلاف جديدة. الفرق الإسلامية التي عرفت في التاريخ، وهي بالمئات، جاءت نتيجة هذه الفذلكة. العودة إلى الأصل، تكثير للفروع. ولا جدال في ذلك. التاريخ يشهد.
قضية الدولة وعلاقتها بالدين هي أم القضايا في الإسلام السياسي، ولكن البحث فيها أورث «الأمة» «الحاكمية» و»الخلافة» و«الإمامة» و«ولاية الفقيه». لا ننفي الأصل التاريخي لهذه الأبحاث وما أسفرت عنه من نتائج وقضايا، لكن، بسبب طغيان الأصول على الفروع، غابت المسببات التاريخية والسياسية، وباتت «الخلافة» و«الإمامة» و«الولاية» كأنها من الأصل الديني، ولا يستقيم الدين من دونها. ولأجلها قامت حروب وفتن.
عند هذا المقام يبدأ النقاش، على أن لا يكون مسنداً إلى النص أو الحديث أو الرواية، بل إلى الوقائع كما جاءت سرديتها في التاريخ، بشقه المحايد نسبياً.
هنا بعض الأسئلة: هل إدخال الدين في السياسة شأن من صلب الدين؟ إذا كان ذلك كذلك (وهو ليس) فهل هو مفيد وإيجابي أم هو مفتن ومدمر؟ أيكون المنع اعتداءً على حرية العمل السياسي ونقضاً للتعددية وافتئاتاً على الديموقراطية؟
أو، ألا يعتبر قمع الحركات الإسلامية انتهاكاً لحرية المعتقد وحرية الممارسة وحرية المشاركة في العملية السياسية، ما يؤدي إلى ارتكابات دموية ومشينة، بحق جماعة تحاول أن تطبق ما تؤمن به؟
المسألة هي هنا، والنقاش في هذا المضمار، ليس نظرياً، إذ تبدأ المحاجة النظرية والردود عليها، بطريقة تقارب الجدل البيزنطي. هذا الفعل السياسي الديني، لا ينتمي إلى جنس الملائكة. حله، ليس في العودة إلى الآيات والكتاب والأحاديث وحدّثني فلان عن فلان… ولا هي، كما كان الشأن في الكنيسة، عندما قبضت على الدولة والسياسة والمجتمع والأجساد والأرواح والأرزاق، باسم الدين. ولقد وجدت الكنيسة من الحجج البينة، لتلك السلطة المستبدة التي أنشأتها ورعتها، حتى هُزمت، فارتدعت، فتراجعت مكتفية بما عندها في عالم الروح، مع تدخل خجول في بعض السلوكيات، لا أكثر.
النقاش حول الدين والسياسة، ليس نقاشاً في الدين، بل هو نقاش خارجه، وإنما عنه. نقاش عنه ولكن من دونه، نصاً وحديثاً واجتهاداً وفقهاً.
يطيب لعدد من الكتاب أن يغرف من التراث الإسلامي ما يناسبه، وأن ينتقي من النصوص ما يفيده. وهذا دأب الذين يتعاملون بانتقائية مع السلف. مربط القضية ليس هنا، بل في قراءة الوقائع. فالوقائع وحدها تثبت جدارة الفكرة الناتجة من حسن قراءة الحدث بذاته، أو كما ورد النبأ من مصادر مختلفة.
المحطة الأولى، هي محطة الخلافة، وسأحاول، بما توافر من كتابات وأدلة، أن أبيّن أن تلك الخلافة وتحديداً خلافة أبي بكر، كانت خلواً من الدين، ومن أي إشارة إلى مرجعية نصية في الكتاب، أو إلى أي توصية واضحة محددة وملزمة بالطبع للجميع، في كيفية إدارة الشأن العام، في كل فروعه، باستثناء الوحي، وفي آليات تولي القيادة من بعده.
شبه إجماع لدى النقلة، أن ما جرى في السقيفة بعد وفاة الرسول لاختيار خليفة أو لانتزاع الخلافة، لم يتطرق إلى أي إشارة لمرجعية دينية. النقاش والجدال بين التيارين المتعارضين، تناول الأفضليات المدنية والقبلية والعشائرية، ومن ساعد من ومن قدم أكثر. ولقد كان النقاش، على حدته أحياناً، ديموقراطياً مدنيا (بنسبة قبلية زائدة) وسياسياً بامتياز (وفق منطوق السياسة النسبية آنذاك)، حتى بلغ الأمر أثناء المحاجة والنقاش بين المهاجرين والأنصار، والأفضلية لمن، أن تقدم الحبّاب بن المنذر بحل وسط حول إمكانية اقتسام السيادة والإمارة بين «خليفتين» بصيغة «منا أمير ومنكم أمير». غير أن عمر بن الخطاب، بما يملكه من قوة وتأثير (السياسة لعبة موازين قوى) استطاع أن ينتزع الخلافة لأبي بكر، فألزم الأنصار، على مضض، بهذه الخلافة. لكن هذه البيعة لم تحظ بالإجماع، إذ خرج عليها، لأسباب غير دينية، سعد بن عبادة والزبير بن العوام وعلي بن أبي طالب وآخرون.
يكره الإسلاميون الاستناد إلى كتاب علي عبد الرازق، «الإسلام وأصول الحكم»، ولكن لا مفر، ولو كره الكارهون، من دون سبب وجيه. يقول عبد الرازق: «إذا أنت رأيت كيف تمت البيعة لأبي بكر، واستقام له الأمر، تبين لك أنها كانت بيعة سياسية ملكية، عليها كل طوابع الدولة المحدثة، وأنها إنما قامت كما تقوم الحكومات، على أساس القوة والسيف».
المنافسة بين الأنصار والمهاجرين كانت قائمة في حياة الرسول، وكلاهما له في الإسلام سهم وفضل وعطاء. ببساطة، كانوا مسلمين جداً، ولكنهم اختلفوا في السياسة. لم يستقوِ فريق على فريق، لانتزاع السلطة والخلافة بنص أو بحديث أو بتحريض. ويشير محمد عابد الجابري، إلى أن هذا الصراع بين المهاجرين والأنصار ظهر علانية في عدة مناسبات، ولولا تدخل الرسول في كل مرة لحدث الانفجار بين الفريقين. ولم يكن ذلك بسبب تكفير أو اجتهاد، بل بأسباب سياسية، لا علاقة للدين فيها.
فلماذا، اليوم، إقحام الدين في ما ليس من اختصاصه واهتماهه؟ في الأصل، لم يكن الدين كذلك. لقد كان في الأساس مفصولاً عن السلطة وعن السياسة.
من الواضح أن الدين، وهو في أوج انتشاره وقوته وصلابته وبقيادة الرسول، لم يمحُ العصبية القبلية. قالت الأنصار إثر وفاة الرسول: «والله لوددنا أننا متنا قبله، إنّا نخشى أن نفتتن بعده».
وحدث بعد ذلك أن أسيء إلى «المعارضة» آنذاك، فقد نُفي سعد بن عبادة، لأنه انتخب خليفة قبل اكتمال «النصاب» في السقيفة. ويقال إنه اغتيل بتدبير من عمر الخطاب. ما علاقة الإيمان بذلك. هذا عائد إلى التراث البشري الذي أكد أبدية الصراع على السلطة.
فما ولد في مكة والمدينة، هو الإسلام، ديناً ودنيا. ولكن في السقيفة ولدت السياسة بلا إسلام. أو، ولدت السياسة عند المسلمين بعد وفاة الرسول. ولتأكيد ذلك، عدم وجود قواعد وأصول دينية وتشريعية لذلك. ويعتبر الشيخ عبد الله العلايلي، أن الخلفاء الراشدين، تبوأوا السلطة، بطرق وآليات مختلفة، فأبو بكر، حصل عليها عنوة، وعمر ابن الخطاب بالتوصية، وعثمان بالانتخاب الأرستقراطي (مجلس الناخبين الكبار الذين عيّنهم عمر) أما علي فجاء على الطريقة الأثينية بـ«الانتخاب» الشعبي.
أين الإسلام، نصاً وسيرة، من كل ذلك؟ يقول محمد شحرور في كتابه «الدولة والمجتمع» إن ما حصل بعد وفاة الرسول، ليس من صنع الرسول ولا علاقة له به. فقد لعب جدل الإنسان وبنية المجتمع الجديدة ورواسب الجاهلية وكفاءة الفرد في صنع القرار، دوره في صنع الأحداث. والصحابة لم يختلفوا بعد وفاة الرسول حول أركان الإسلام ولا على الصلاة وكيفية أدائها وأركانها، ولا على الشهادتين والحج، ولا على الزكاة، بل كان خلافاً سياسياً إدارياً بحتاً حول السلطة أو الغنيمة أو حول السلطة والغنيمة معاً (عن كتاب الحركات والأحزاب الإسلامية وفهم الآخر، لصالح نصر الدين).
إن الصراعات الدامية والفتن المدمرة، كانت بأسباب سياسية وإدارية. الفتنة الكبرى، معركة الجمل، حتى معركة «التحكيم»، قامت بين مسلمين ومؤمنين مناضلين، شاركوا في فتوحات الإسلام وفي الدفاع عنه. وقتل من المسلمين الأوائل والصحابة والقراء، في حروب الردة ما جعل المتقدمين يخافون أن تضيع آيات الكتاب، فتم جمعه في عهد عثمان… من كان قادة هذه المعارك؟ هم من صلب عائلة الرسول: أبو بكر وعمر وعثمان، وبينهم وبين الرسول صلة قربى، كأنهم تحت سقف واحد في الإيمان والعلاقات العائلية. علي بن أبي طالب، صهر الرسول، عائشة زوجة الرسول، الخ.
الصراع السياسي على السلطة قام بين هؤلاء. ولم يتم إدخال الدين وتوظيف الآية إلا بعد معركة صفين، وخروج الخوارج على قبول التحكيم بين علي ومعاوية، وجعل الاحتكام للنص القرآني، وتكفير من لا يلتزم به. مع الخوارج، دخل الإسلام في مسار خطير، بلغ «داعش» في القرن الحادي والعشرين.
دشن إدخال الإسلام في السياسة مع الخوارج، ومعهم بدأ التكفير. وهذا ما حصل في المسيحية في بداياتها مع الملك قسطنطين، فحروب المسيحيين مع الهراطقة دامت لمئات الأعوام وعرف المسيحيون تكفيراً أنتج مجازر بين المسيحيين أنفسهم. فقبل حرب المئة العام في المغرب، عرفت الإمارات الشرقية في أوروبا، عدداً هائلاً من حروب التكفير والاستتباع.
بالانتقال السريع إلى حاضرنا، يمكن أن نتبين كيف يبدأ الإسلام السياسي برفع نصرة الدين وتطبيقه في السياسة والاجتماع والدولة، ثم يتحول إلى جعل الدين في خدمة الأغراض السياسية، بكلفة الفتنة والقتل.
الدين في السياسة إعلان لبدء الحرائق. حرائق الماضي دليل، وحرائق الحاضر شاهد على خطر الدين في السياسة والدولة.

http://assafir.com/Article/18/386774/MostRead

السابق
القوى الأمنية فتحت طريق الصيفي بالقوة
التالي
أهالي العسكريين طالبوا المشنوق بالاستقالة