صباح : إشارات عن الزمن

صباح

الفنانة اللبنانية صباح امرأة فريدة. إنها صاحبة معانٍ عن الزمن، لا تكف عن بثّ إشاراته في فضائنا وفضائياتنا.

إنها ابنة العصر بامتياز، وقد تكون سبقته. قلبت التقسيم الجنسي لغراميات النجوم، نجوم الفن او السياسة او الأعمال البيزنس وفعلت ما يفعله زملاؤها بالضبط: دأبت وما زالت، على تبديل الشركاء الشرعيين الذين صاروا مع الوقت يصغرونها بعقود.

فصباح، بعد سبع زيجات أو ثمانٍ، تكلّل اليوم حياتها أو لا تكلّلها، فهذه قد لا تكون آخر قصصها، بالارتباط بشاب وسيم للغاية هو ملك جمال لبنان. وانتخاب “ملك جمال” لبنان، هو بذاته في طليعة مؤشرات الزمن: إنه انقلاب في التقسيم الجنسي للغراميات. شاب يصغرها بخمسة عقود ونصف، يعشقها كما يقول. وعلينا أن نصدقه.

وصباح تصرفت تماما مثل زملائها الآخرين من النجوم، لكنها اختلفت عنهم بشيء أساسي جدا، هو اعتنائها بمظهرها. فهي خلافاً لهم، بعد السبعين، تحافظ على قوام ممشوق، ترتدي دائماً أحلى الفساتين، وتسرّح شعرها بآخر التقليعات. ورغم تغيّر ملامحها وصوتها بأثر من الزمن وربما من عمليات التجميل، إلا انها ما ان تبدأ الكلام حتى تشع الابتسامة المضيئة على وجهها، وتتوزّع السعادة في المحيط. وهي بذلك غلبت الرجال المتشبّثين بالتقسيم القائم للغراميات، ليس فقط لأنها مارست ما هو اختصاصهم الأعز على قلبهم، بل لأنها عبرت عن حبها لرجالها الشبان خاصة الأخير وما قبل الأخير بعبارات صريحة واضحة وبحلّة أنيقة مليحة وذات قوام.

وهذا ما يفسر، ربما، الموقف الأخير للصحافة منها، الذي يدعوها الى الاعتزال أسوة ببقية الفنانات السبعينيات اللواتي اختفين من المشهد، ويستنكر غرامياتها في هذا السن، ويقارن بينها وبين “القدوات” الحسنة من الفنانات الأخريات “المحترمات”. وهي الصحافة نفسها التي لا ترى غضاضة في ارتباطات مماثلة لنجوم من الرجال، بل تعتبرها غنيمة. ألم يكتب، مثلاً مراسل إحدى المجلات السياسية العربية من بيروت “تحقيقاً” حيث سأل كلاً من طالبات الجامعة الاميركية “هل تقبلين بفلان عريساً لك؟”، والفلان هذا هو نجم من نجوم السياسة متزوج ومقبل على الستين!

وفي هذه النقطة من إشارات صباح الى الزمن يتجسد وجه من وجوه التبادل بين الجنسـين، لكنه هذه المرة يعمل مقلوباً: فبدل ان تكون المرأة صبية مغمورة جميلة تعطي نفــــسها للنجم العجوز، اصبحت المرأة العجوز هي التي تجذب اليها الشاب المغمور الوسيم… ملك الجمال! إنه تبادل مقلوب للجنس، لا أعرف مثيلاً له في الشرق، بل نادرا ما حصل حتى في الغرب المعاصر. وقد تكون الفاتنة الاميركية اليزابيث تايلور، السبعينية أيضاً، هي النظير الغربي لصباح. وهي مثل صباح، إمرأة فريدة.

الجانب الآخر من علاقة صباح بالزمن لا يفوت أيضاً جمهورها الواسع، وإن اختلفت عباراته. وواحدة من هذه العبارات ما هو شائع وسط اللبنانيين: إذ لا يجتمع إثنان منهم حول صباح إلا ويحضر السؤال عن عمرها: “دخْلكْ! قديش كم عمرها صباح؟”.

في الماضي، أي منذ عقدين، كنا نسخر مما نعتبره تصابياً من جانبها، ونتهكّم على دلعها وشعرها وإفراطها في الاناقة، متناوبين على اعطائها المزيد من السنوات، إذ كانت تدّعي، في تصابيها، انها تنافسنا نحن الشديدات الاعتداد بصَبانا.

أما اليوم فان السؤال نفسه عن عمرها يجرّنا الى عمرنا نحن، فتتجدد دهشتنا، لكنْ هذه المرة برقة وإعجاب وبإحساس عميق، ربما، حيال ما تقصده صباح مما تفعله، او بالاحرى تعلن انها تفعله أمام الجمهور. فنحن لا نستطيع التوغل في أعماق روح صباح، لكن الاشارات التي تبثها الينا، وترجمتها هي لمعاني الحياة، تختلف جذريا عما تبثه الفنانات الأخريات: ففي حين تخشى معظمهن القيل والقال والشائعات ويتدثرن بلباس الفضيلة، وكأنهن مرشحات للتطويب، وفي حين ان الغالبية ايضاً تتفادى السخرية والمحرمات.

ولا تملك الطاقة والشجاعة على مقاومة الكسل والتراخي، فترمي الواحدة من هذه الغالبية كل ثقلها المادي على زوج ينفق عليها في عسرها، وتفقد الكثير من حريتها، تطلع علينا صباح دائما بقصة اخرى، بنغمة اخرى، بتسريحة وفستان آخرين تشي معالمهما بانها لم تدخر جهدًا إلا بذلته في سبيلهما، فتطفح منها الديناميكية والقوة

وبأسلوبها الفريد في التمسك بالحياة، فكأن جل مرادها إسعادنا بمجرد حضورها هذا و… في هذا العمر بالذات. والآن أتخيل السؤال الاستنكاري القادم: إذاً يمكن اعتبار صباح قدوة حسنة يُقتدى بها؟ وهو سؤال يبطن ما يبطنه من تعيين للـ”قدوات” الأخريات من نجمات الفن، المعتزلات او المختفيات او المحجبات او “المحترمات”. والجواب عندي ان لا قدوات في العصر الفوضوي الراهن. فنحن في هذا العصر المفتوح على كل الاحتمالات، المتعطش للإختلافات، كلٌ منا يلتقط احتمالاته بفرديته، بحسب تجربته الخاصة وتكوينه الثقافي وما ينتظره من الحياة.

صباح ليست قدوة، وهذا ليس انتقاصاً من قيمتها، بل هو تعزير لقيم الاختلاف: صباح فنانة حقيقية أعطت من وقتها واستقرارها وغرامياتها، وربما من صحتها أيضا، من اجل اختراع نفسها وإسعادنا بها. وهي أدمنت ذلك طوال حياتها المديدة، الى حد انها لن تموت إلا وهي مبتــسمة تلك الابتــسامة المشــرقة المصرّة على آخر قطرات الحياة. وأخشى ان لا نفهم إلا بعد موتها كل الإرث الذي صنعته لنا بصوتها الصادح ومظهرها المبهج: إرث من القصص التي لا تنتهي، فيها الذاكرة وفيها الخيال. إرث من الكرم والتسامح والحب الفريد من نوعه للحياة، وعلاقة بالزمان هي من الأكثر فرادة.

السابق
لماذا تعمّد «حزب الله» تضخيم تحرير أسيره؟
التالي
حراك دبلوماسي حول الرئاسة… والحريري لحوار لبناني