الطفولة والذاكرة‏

حنان بكير

يوم جرى اقتلاع الفلسطيني من أرضه، عام 1948، خال المغتصبُ انه ضرب تجذّر الزيتون في شعبنا، وراهن على عامل الزمن، في محو ذاكرته، فالكبار يموتون والصغار ينسون”، وأن ما فشلت المجازر في ضربه، سوف يتكفّل به ضغط التهجير وذلّ اللجوء والمخيمات! لكن الكبار قبل ان يموتوا، أورثوا ذاكرتهم للصغار، وأودعوها أمانة في أعناقهم، منذ ايام سمعت كلاما مسموما، جعلني أستعيد بعضا من صور كثيرة واجهتها في حياتي العملية.

كان ذلك زمن إحدى الغزوات “الحضارية” على غزة، وكانت التظاهرات تخرج كل يوم تملأ ساحات المدن الكبيرة في النرويج، المظاهرة الضخمة ضمّت كافة الجنسيات في أوسلو، إدانة واستنكارا، ثم انتهت أمام السفارة الإسرائيلية، الجموع الغفيرة انتشرت على هضبة غير مرتفعة، وفي الغابة المواجهة للسفارة، الجنود وقفوا كتفا لصق الكتف مشكلين درعا امامها، وتجمّدوا كالأصنام المعدنية، محتمين بدروعهم وخوذهم، رجال الشرطة على الخيول وقفوا غير بعيد.
حين بدأ بعض المتظاهرين برشق الحجارة، خلافا للاتفاق، تحركت الخيّالة باتجاههم، ففرقتهم سنابك الخيول وتراجعوا، فاجأني الأطفال الذين حملوا الأعلام الفلسطينية، وتلفحوا بالحطّات، باندفاعهم، صوب الجنود الذين شكلوا الدرع البشري، وبدأوا بالحديث معهم، سرتُ باتجاههم، كانوا يحدثون الجنود، كيف اغتصب الصهاينة وطنهم، ” كان في عنا وطن متلكم، وبيت وبيارة، أخذوها كلها”، ” بدير ياسين ذبحوا كل الناس”، ” سرقوا بيوتنا وصرنا نعيش بالخيام”، ” لو ان وطنكم الذي سُرق، ماذا ستفعلون”، هذا بعض ما تناهى الى سمعي، كانوا يتكلمون النرويجية بطلاقة، عدت أدراجي مفعمة بفرح النجاح بتوريث الذاكرة.
أعادتني هذه الحادثة الى مخيم الرشيدية في الجنوب اللبناني، يوم رافقت فريقا تلفزيونيا انجليزيا، حيث تراكض الأطفال وتجمهروا حولنا، وأمطروا الفريق بوابل من الأسئلة، حول موعد عودتهم الى فلسطين، فتحوّلوا الى فريق اعلامي، سأل أحد الصغار” صحيح إنتو جايين تاخدونا ع فلسطين، إحنا تعبنا من المخيم”، سألني الصحفي ان أترجم له، ففعلت، دمعت عيناه، فقلت له: هذا ما جنته دولتك العظيمة.
زارت إحدى الشخصيات النسوية مخيم برج البراجنة، قادمة من فلسطين، تجوّلت في أزقته، وسط تزاحم الناس وتحلّقهم حولها، جاء طفل راكضا نحوها، وبيديه النحيلتين، فتح لنفسه ممرا في الدائرة المحيطة بزائرة جاءت تحمل عبق تراب الوطن، وقف الطفل أمامها، رافعا نظره اليها، دار حولها دورات عدة، لمس ثوبها كمن يلمس شيئا مقدسا، ثم سألها: صحيح إنت جاي من فلسطين؟ أجابته بنعم، وراح ترجعي ع فلسطين؟ سأل، نعم حبيبي، انشرح وجهه وقال: طيّب سلميلي على كويكات اشتقتلها.
ويوم سافرت للدنمارك، بمهمة إعلامية، اجتمعت مع عدد كبير من الفلسطينيين، وداخل احدى القاعات الكبرى، قاطعتني طفلة جميلة، ربما لم تكن تتجاوز الأربع سنوات، ركضت نحوي، وقفت أمامي، التصقت بي قليلا وبجرأة قالت: ونحنا كمان اليهود كسروا بيتنا وسرقوا لنا بطيخاتنا وكل شي، وما بقي عنّا شي ابدا، حضنتها وسألتها عن اسمها أجابت” شهيرة خريبي”، ارتعدت لسماع هذا الاسم! فهي حفيدة المناضلة شهيرة خريبي التي فُقدت أثناء الاجتياح الإسرائيلي، وكانت تلك الطفلة التي ولدت في الدنمارك ثالث جيل لا يعرف وطنه.

http://www.alhayat-j.com/newsite/details.php?opt=1&id=248645&cid=3485#.VHHFdysFry0.facebook

السابق
المشنوق: نمر بمرحلة انتقالية ولن نترك وسيلة لحماية البلاد الا ونلجأ اليها
التالي
أمين الصندوق سرق أموال موظفي اتحاد بلديات صيدا