العرب وأميركا: من سلاح النفط إلى سلاح داعش

إنها الحرب الاميركية الثالثة في المنطقة منذ مطلع تسعينيات القرن الماضي، والثانية بمشاركة عربية. واحدة خاضتها أميركا لتحرير الكويت من الاحتلال العراقي وأخرى لـ”تحرير” العراق من نظام صدام حسين. أما اليوم، فالحرب تخاض ضد إرهاب التنظيمات الجهادية المتطرفة، وهي حرب أعلنها “داعش”، وقبله “القاعدة”، ضد الكفار أينما حلّوا. وخلافا لسياسة تلفيق الذرائع لتبرير الاجتياح الاميركي للعراق في العام 2003، فإن الحرب ضد الارهاب محدودة في أهدافها وأوهامها، وهي تعكس سياسة إدارة الرئيس أوباما للحدّ من الخسائر في زمن الانسحاب من أفغانستان. وقد حاولت الادارة الاميركية الهروب أو التهرّب من التدخل العسكري في المنطقة، وفي سوريا تحديدا، وهي تعود الآن لكن بحذر وتروٍّ.
لا تطمح واشنطن اليوم الى إقامة شرق أوسط جديد بل وضع حدّ لتطرف ساهمت الحرب الاميركية في العراق بتأجيجه، فالقديم سيبقى على قِدَمه مع محاولة احتواء الاندفاعة “الداعشية” قدر المستطاع. الواقع ان السياسة الخارجية في عهد الرئيس أوباما تقتنص الفرص ولا تبادر، كما أنها لا تدّعي المعجزات. فهي سياسة واقعية الى أقصى الحدود، وكأنها ردة فعل معاكسة لسياسة جورج دبليو بوش المتهورة.
قبل اعتداءات 11 ايلول، تمحورت أولوية السياسة الخارجية الاميركية في بداية ولاية جورج دبليو بوش الاولى حول الصين واليابان للتصدي للتحديات الاقتصادية، وتراجَعَ الاهتمام الأميركي بالشرق الاوسط، لا سيما بعدما استنفد سلف بوش، بيل كلينتون، رصيده السياسي لإنجاح المفاوضات بين اسرائيل والفلسطينيين وسوريا، ولم يفلح. لا بل إن مرتكزات السياسة الاميركية في المنطقة اليوم تبدلت عمّا كانت عليه في مراحل سابقة، ولم يبقَ من ثوابتها التقليدية سوى الدعم المطلق لإسرائيل، برغم التوتر المتزايد في العلاقة بين الطرفين. اهتمامات الرئيس أوباما منصبّة حاليا على إيجاد “تسوية تاريخية” مع ايران حول الملف النووي، بعدما باتت احتمالات نجاح التسوية العادلة على أساس الدولتين بين الفلسطينيين واسرائيل شبه معدومة. وهذا ما لَمَسه الطرف الفلسطيني بعد مبادرة رفع العتب التي قام بها وزير الخارجية الاميركي جون كيري أخيراً، ولم تتجاوز مسألة تبادل مناطق الحدود، ودائما لمصلحة اسرائيل. بكلام آخر، قضايا المنطقة التقليدية التي شغلت الادارات الاميركية لسنوات، وفي مقدمها النزاع العربي – الاسرائيلي، لم تعد في سلّم أولويات واشنطن. كما أنه ليس لأوباما اجندة ايديولوجية أو “رسالة” إصلاحية لتغيير سلوك شعوب المنطقة وأنظمة حكمها، خلافا لأوهام جورج بوش الابن. توجهات باراك اوباما هي اقرب الى توجهات جورج بوش الاب، وان من موقعين سياسيين مختلفين.
وفيما أعاد بن لادن أميركا الى المسرح العسكري في الشرق الاوسط بعد انتهاء الحرب الباردة، فإن ابو بكر البغدادي يعيدها اليوم الى المسرح عينه لكن بدعم عربي. الارهاب مسألة استجدّت عَرَضا ولا بد من التصدي لها. انها “حالة طوارئ”، لا تترك للطبيب خيارا سوى إجراء اللازم، إلا انها قد تتبدّل أو تتوقف لأسباب تقررها واشنطن بمعزل عن سياسة حلفائها الغربيين أو تمنيات داعميها العرب. وهي تتأثر بسير العمليات العسكرية وفعالية التصدي لـ”داعش”، وبمسار العلاقات الثنائية مع ايران، والى حدّ ما مع النظام السوري، وعلى المستوى الدولي مع روسيا، التي تخوض واشنطن حربا باردة ـ ساخنة معها في أوكرانيا. وعلى الجبهة الاوكرانية مشروع مواجهة لا يخلو من المخاطر، وقد يؤثر في مسار السياسة الاميركية في المنطقة، لا سيما أن روسيا، التي استعادت بعض قواها، لن تقبل التحدي الغربي في منطقة تعتبرها تاريخيا في دائرة أمنها القومي.
أما مراهنة البعض على جائزة ترضية لإطاحة النظام السوري، فهي لا تدخل في حسابات واشنطن لأسباب عديدة، منها هدف التصدي للإرهاب المسلح، ولان ما من أحد، باستثناء بعض الاطراف الاقليمية، يريد تكرار تجربة الانهيار الكامل للدولة والمجتمع في ليبيا، في الحالة السورية. ففي سوريا، بعد ثلاث سنوات من المواجهات الدامية، ثمة توازنات نشأت ولا يمكن تجاوزها بسهولة أو دفع أثمان إطاحتها. حالة واشنطن مع النظام السوري هي أشبه بالموقف الاميركي في عهد الرئيس ايزنهاور الذي أجبر حلفاءه – بريطانيا وفرنسا واسرائيل – على الانسحاب بلا قيد أو شرط بعد العدوان الثلاثي في العام 1956 لا دعما لعبد الناصر، بل لأسباب تخص مكانة أميركا ودورها في قيادة المعسكر الغربي بمواجهة الاتحاد السوفياتي، بعد سنوات قليلة من الحرب الكورية التي كادت تكون بداية لحرب عالمية ثالثة.
الواقع ان الاهمية الاستراتيجية للشرق الاوسط، وللعالم العربي تحديدا، تراجعت عما كانت عليه في مراحل سابقة. العالم العربي في حالة صخب وفوضى والعالم الإسلامي في صراع مع الذات ومع الغير، والتشرذم المذهبي المعسكر بلغ مستويات غير مسبوقة. لم يعد يُحسب للعالم العربي حساب في المسائل الاستراتيجية الكبرى، وعالم إسلامي يشكل خطرا على ذاته قبل أن يكون موضع اهتمام الغير. أما النفط، الذي شكل لعقود عامل ارتكاز للأهمية الاستراتيجية للمنطقة، فهو اليوم مصدر ثروات ضخمة تعود بالنفع لأصحابها وليس للعالم العربي وقضاياه العالقة، أو للعالم الخارجي، بعدما تراجعت أهمية النفط الاستراتيجية من حدّها الاقصى في الحرب العربية – الاسرائيلية في العام 1973. وبين سلاح النفط الاقتصادي في سبعينيات القرن الماضي وسلاح “داعش” التكفيري هوة لا تقل عمقا عن المسافة الفاصلة بين الجنة الموعودة وجهنم الكفار.

http://assafir.com/Article/1/381274

السابق
ندوة عن الإمام الحسين في يارين
التالي
ما هي القنبلة التي أطلقها مدير شركة Apple؟