مغمض العينيين بلا قلق

”باتت الناس الآن، إذ يسمعون الصفير المرافق للطائرة أو للقذائف، تركن في مكانها وتنتظر الصوت المدوي لسقوطها، ثم تتلفت حولها – لم يكن دوري اليوم – تقول لنفسك ثم تتابع المسير“

كدت أسقط من السيارة! كنا جالسين في الصندوق الخلفي لسيارة نقل صغيرة (بيك أب)، نحن الثلاثة وحلتان كبيرتان جداً مملوأتان بالأرز المطبوخ. كان السائق في العشرينات من عمره يقود السيارة كأنه مقبل على خط النهاية في سباق “رالي”، كلما اقتربنا من اللافتة المكتوب عليها(مدخل جوبر الوحيد). وهذه النقطة هي الأكثر قصفاً في المنطقة، حيث لا تمر خمس دقائق دون أن تسقط قذيفة من قاسيون. لكن هذا اليوم كان مختلفاً…

كانت معركة المليحة قد وضعت أوزارها قبل بضعة أيام، بعد انقضاء أكثر من 140 يوماً من القتال المتواصل والدفاع المستميت كي لا تدخلها قوات الأسد، وها هي قد استعادتها ركاماً.

“هو دور جوبر إذاً؟” سألت عباس.

“جوبر مختلفة. جوبر أصعب من موسكو! … أخ يامؤخرتي” أجابني عباس ذو الأربعة وعشرين عاماً، بصوته الحاد المرتفع الذي اعتدته مع مرور الزمان، في ذات اللحظة التي كان يرتفع فيها طائرا في الهواء ليسقط مرتطما بشدة على حديد السيارة، بعد ان مرّ الاطار الخلفي للسيارة على حفرة خلفتها قذيفة ما.

“جدي ذو السابعة والتسعين عاماً، وبالرغم من أنه نصف أعمى يقود أفضل منك أيها الأحمق”، صرخ عباس قاصداً السائق، ثم نظر إلي وتبسم ويده على مؤخرته:

“لن تعرف جوبر! لقد قُلِبَ عاليها واطيها وكل يوم يتغير شكل الطرق الداخلة والخارجة منها”

عباس فلسطيني كان جده يتعاون مع أهالي دوما في ثورة 1936 وكان يهرب السلاح والذخيرة للثوار في الجليل. لذا حين وقعت النكبة انتقلت عائلته لعيش في دوما، بدلا من الاقامة في المخيمات.

لدى عباس في بيته صندوق يحوي كل وثائق العائلة التي تؤكد ملكيتهم للأراضي و “الملاكانات” في فلسطين، بالإضافة إلى ورقة موقعة من أديب الشيشكلي شخصيا موجه لجده تسمح لهم بالعمل والتنقل في سوريا. وقد كان هذا الأخير صديقا لجده اثناء النكبة.

هذا الصندوق أطبق عليه سقف البناء قبل عام من الآن، في أعقاب غارة جوية عنيفة بالصواريخ الفراغية. يومها وجدته كالمجنون يبحث بين الركام عن الصندوق بعينين دامعتين صارخا: “جاعت البلد ياماه, ضاعت فلسطين”. لم أره باكيا بعدها أبدا.

استقال عباس من الدفاع المدني حديث التشكيل بعيد تحرير دوما، ( بعد تحرير دوما والغوطة الشرقية أسس بعض الناشطين نواة لدفاع مدني مهمتها اطفاء الحرائق ورفع الركام و توثيق الشهداء ) وانضم الى الكتائب المسلحة. يومها نظر الي مبتسما رافعا الروسية في وجهي “بهذه سأحفظ حق الأهل وأعيد ماهو لي، لا ببعض أوراق بالية”

تجاوزنا اللافتة ناجين من القصف، لكن ممتليئين بالرضوض جراء القيادة الممتازة لصديقنا الذي لم يترك حفرةً أو ثقباً لم يصبه دون أي تأنٍ.فالتأني على هذا الطريق قد يعني رحلة الوداع.

منذ شهر شباط 2013 والى اليوم، اقصد جوبر كثيراً ولا أتركها تغيب عني طويلاً. إنها دمشق، أحد أحيائها على الأقل, كل شيء فيها مختلف، أو كذا أنا أظن…

لكنني لم أرها هكذا أبداً من قبل! أو لنقل إنها لم تختلف، بين غياب وغياب، لهذه الدرجة من قبل! لم أميز الحي، ورغم أن الساعة كانت الواحدة ليلاً والرؤية شبه معدومة، إلا أنني استطعت أن أحس بحجم وهول الدمار. أبنية اختفت بالكامل وأطبقت على الأرض.

“انتظر شروق الشمس وسترى بعينيك وتسمع بأذنيك قصفا لا يعرفه الجحيم نفسه”، قالها عباس بصوت يشوبه الفخر، إذ رأني نصف مشدوه.نزلنا إلى قبو البناء الذي كان يوماً ما من خمسة طوابق كما أذكر ، وأصبح الآن بطابقين اثنين فقط.

في اليوم التالي، بالكاد خرجت من القبو. كان ذلك شبه مستحيل بسبب وابل القذائف الذي لم أر ولم أسمع مثله في حياتي من قبل. مع أن لي تجربة في هذا المجال.

قضينا اليوم في القبو نضحك ونهتز على صوت القذائف وأثارها. كان عباس لا يتوقف عن الشتيمة والضحك “إبن المهجورة لو أمكنه لأطبق السماء فوقنا”

في المساء يخف القصف نسبيا، ويصبح عباس ورفاقه ملوك الساحة. تجولت برفقتهم قليلا في الحي، متنقلين من ركام إلى ركام. تفقدنا سويا، أنا وعباس، كما اعتدتنا أن نفعل، بيت ومعمل “خليفة”، وخليفة هذا، هو أهم صانع أعواد في المنطقة إن لم يكن في سورية، وبيته ومعمله في حي جوبر كانا متضررين بشده من قبل. بعد تلك الليلة، لم يعد لهما وجود.
عدت في الليلة التالية إلى دوما …

أثناء تصفحي للنت وجدت صورة لذلك اليوم مأخوذة من مدينة دمشق لحي جوبر تحت القصف …. ارتجفت.

لم أرتجف لأنني كنت الخارج من تحت الدمار ومن كادر هذه الصورة. ربما ارتجفت لأنني تذكرت أن هنالك أحد ما في الجهة المقابلة! كنت قد نسيت ذلك، أحد يرى ويسمع يفكر ويحلم ويصور القذائف المنهمرة علينا. أحد له ما له وعليه ما عليه، هو انعكاسي، احتمالي الآخر في الوجود، وقد أنساني إياه انغماسي، وبت أظن أننا وحدنا في هذا العالم، وأن الشيء الوحيد القابع من الضفة الأخرى هو الموت، بقذيفة أو قنبلة أو رصاصة.

ترى هل تترك صوري، أنا القابع في الجهة المقابلة، شعوراً كهذا حين يتلقفها سكان بيوتكم، رغم انغماسكم في همومكم وضوضائكم؟ ترى هل أنساكم ذلك وجودنا أيضا؟

لعبة التقاط الضوء خطيرة. تلغي احتمال أن ما عكسه يوما شعاع النور مرَّ وانتهى، مهما أغمضت عينيك من الوقت.

تأملت الصورة قليلاً، الكاميرا المستريحة بقربي بخدوشها المميزة تبدو ذات شخصية خاصة الآن.

“لا لسنا لوحدنا لكن الآلام حين تلفك، تطبق عليك، ثم تعميك فلا ترى، فتحزن –والحزن شي بيعمي على القلب يا صاحبي – لكن لا لسنا وحدنا”، قال لي (شيركو) ذلك، إذ أفشيت له ما يجوب بخاطري بعيد مغادرتنا مدخل احد الأبنية التي التجأنا إليها لنحتمي من وابل القذائف التي انهمرت علينا في دوما ذات ظهيرة، بعد أيام من عودتي من آخر زيارة لجوبر.

تلا ذلك ثلاثة أسابيع من القصف المتواصل بالطيران والمدفعية، حصد أكثر من ثلاثمائة روح أخرى من سكان المدينة.

الموت والدمار يجريان هنا تماماً كسحب اليانصيب، نحن أيضاً نلنا حصتنا منهما، وعاد البيت الذي نسكنه تماماً كما استلمناه، بلا نوافذ وأبواب، والغبار يغطي كل شيء والركام في كل مكان.

باتت الناس الآن، إذ يسمعون الصفير المرافق للطائرة أو للقذائف، تركن في مكانها وتنتظر الصوت المدوي لسقوطها، ثم تتلفت حولها – لم يكن دوري اليوم – تقول لنفسك ثم تتابع المسير.

تسأل “دور من كان اليوم؟”، أو لا تسأل فلا فرق .. هي عشوائية الموت في هذه المدينة. لا لشيء، إلا لأنك من سكانها، ولو مرغماً أو صدفة.

جال في خاطري أن أغادرها دون رجعة، ذلك وقد أصبحت الهجرة هاجس الجميع؟

أرهبتني فكرة الهجرة لسكن مدينة أخرى لا تعرف القذائف، شوارعها مزدحمة ودروبها منارة، خفت حقاً من الحياة الهادئة بلا قلق. لم اعد طبيعياً على ما أظن!!

إنه الجنون إذاً، ذلك أفضل من حياة مغمضة العينين بلا قلق؟

لن أتقبل شخصاً أخراً يسير بلا اكتراث لأنه ليس قلقاً، في عالم سيء لدرجة بات يوحي فيها أنه مقبل على الإنهيار.

تزعجني فكرةُ أن ثمة آخراً هناك، أي هناك، حيث الهموم البسيطة والموت العابر غير المقيم.

إفتراش الأرض بات أكثر راحة من الأسرة الوثيرة في حضن الأمان. لذا أراني لم أعد طبيعياً.

وأراني إذ أتأمل يديَّا، اسأل ما لهاتين الكفين أن تفعلا في هذا العالم وقد احترفتا رفع الركام وملمس الدم، ترى هل ستجدان مكاناً هناك حيث لا ركام ولا دماء؟

يا مرآتي … أيها الساكن في الضفة الأخرى تراقب جحيمي الحميم من الخارج، رعبك تخطى خوفي بكثير، واراك مستهدفاً بالقصف أكثر مني بكثير، فهذا الاستعراض المبالغ فيه للقوة هو موجه ضدك أكثر مما هو موجه ضدي، والترهيب فن.

أيأتي يوم ونلتقي دون أن يخسر أي منا كل ما يملكه من كرامة أو رغبة في الحياة؟

لا أدري! ولكني أراك مختلفا جدا عني، وكأنك من أرض أخرى أو ابن كوكب أخر.

لا أدري…!

كنت أحس بك من قبل قريبا جدا مني، وبات هناك شق عميق يفرقنا. وأراك كمن يسأل أين المفر من هذا الجحيم؟

أتعرف ماذا يعني أن يكون هنالك أمل ؟ عرفت ذلك مرةً، كانت تلك لحظة حقيقية.

كان الشارع يومها مليئا عن بكرة أبيه بالناس، كل الناس، وكنا نصيح ونتظاهر ونرقص ونغني ونركض، تفاديا للقناص.

لا شيء أكيد، لو كان أكيداً لما أسميته أملاً … وما هو غير أكيد هو أكثر الأمور سعادةً، وليس العيون المغمضة بلا قلق.

السابق
احمد الميقاتي اعترف بسعيه لاحتلال بخعون وعاصون وسير الضنية وبقاعصفرين
التالي
تونس: ختام ثورة