شمس وقمر في إنسان: وجدي شيّا

يا صديقي وجدي، هل تذكر؟ في مثل هذا الوقت من السنة الماضية، كنا ما زلنا نحلم سوياً ونضحك سوياً ونعمل سوياً. أردتُ أن أحمل أيقونتكَ “شمس وقمر” إلى بلد الأحلام، إلى بلد الإنجازات، إلى دار زايد، إلى دولة الإمارات العربية المتحدة. وقد حضَّرنا كل شيء وكوَّنا سوياً، وحيديْن، خلية نحل من أجل ذلك. لشهورٍ طوال وأنت تعمل وأنا أعمل حتى بات موعد قدوم “شمس وقمر” إلى أبو ظبي ودبي والعين قاب قوسين أو أدنى. كل شيء أتممتُ ترتيبهُ لك كي تأتي أنتَ وفارس الأغنية وأعضاء فرقتكَ المكوَّنة من أكثر من ستّين شخصاً بين راقصٍ وممثلٍ ومبدع. حجزنا المسارح وحصلنا على إجازة العرض من قبل وزارة الثقافة في دولة الإمارات لهذا العمل الضخم لكن شاء القدر لأسباب تعرفها انتَ في عليائكَ وأعرفها أنا أن لا يتحقق ذلك فلا يسعدَ جمهورُ الفن الراقي في الإمارات من ذوّاقة لبنانيين وعرب وحتى أجانب بهكذا عملٍ موسيقي راقصٍ من مستوى عالمي رفيع.
وجدي شيا فرحتُ بكَ وإفتخرتُ بكَ كما سأبقى دائماً، فأنت البطل الذي تجرأ ليقول في حقبة الظلام والموت والقتل التي يمرُّ بها هذا الشرق الحزين أن ثقافة الحياة والموسيقى والرقص والفرح والنور أقوى وأجدى وأحلى طالما أن هناك شمساً تشرق وقمراً يطلع. أقدمتَ على حلمكَ رغم كل المعوقات الإنتاجية ورغم حقد سيارات الموت التي كانت تجتاح لبنان ورغم وقوع العالم العربي بأتون الفتن والثورات الجميلة المقموعة والمتحوّلة حروباً أهلية لتقول أن الظلم لا يدوم وأن الغلبة للحب والعقل والنغمة الجميلة والرقصة المعبّرة. أقدمتَ على مشروع حياتكَ كي تفرضَ إسمكَ عالياً في سماء المسرح الغنائي والمشهدية الموسيقية الراقصة التي تحبس الأنفاس روعةً وتقول للجميع أن الفن الراقي هو الأبقى وأن الأمجاد الموسيقية ليست حكراً على أحد مهما علا شأن هذا الأحد. أقدمتَ لتقول ان لا توريث بالفن وأن الكبار الذين رحلوا وراءهم كباراً أمثالك وليس بالضرورة خلفاء من عقر دارهم.
وجدي شيا، يا صديقي، في مثل هذه الأيام من السنة الماضية كنا نسعى لننتهي من عرض “شمس وقمر” لنتفرَّغ إلى حلمٍ جديدٍ أوكلتني كتابة نصِّه وقصائده لتتفرغ انتَ إلى إبداع موسيقاه. لكن الظاهر أن الأحلام الكبرى في الشرق لا تكتمل كما لم يكتمل حلمنا عام ٢٠٠٥ عندما أصدرنا عملنا الأول المميَّز “عودي إمرأةً” الذي أردناهُ وقفةً صارخةً ضد موجة الإنحدار في الكلمة واللحن والموضوع والذي كنا سنتبعهُ بألبوم كامل يعيدُ للأصالة وهجها في زمن الإحتكار والتزوير وسرقة الألحان والتشبيح. فذاك العام سبقتنا يدّ الغدر لتغتال الشهيد الرئيس رفيق الحريري ويدخل لبنان في نفق الموت والصراع الغوغائي بين المحاور. قلتَ لي وقتها: “سافر يا صديقي كم سنة لكان زبط البلد و راق شوي”. أنا سافرت والبلد لم يهدأ.

صديقي الذي أعرفكَ جيداً والذي تعرفني جيداً لأننا نتشابه بل نتطابق في الرؤية والمضمون والأسلوب. في نظرتنا لفكرة المواطنة والإنسان، في عشقنا للحرية وعدم الإستزلام، في تقديسنا للكلمة الجميلة الراقية ولعظمة الألحان. آه كم سأتذكركَ وأتذكَّر الكثير من الأشياء والمواضيع التي كنا نناقشها سوياً في جلساتنا الطويلة في الطابق العلوي من منزلكَ التي أحببتْ، قعدتك القرميدية الجميلة الصافية، عرزالكَ الفنّي على كتف وادي لامارتين. كم سأستذكركَ في رحلاتنا سوياً في السيارة وسماعنا لأروع المقطوعات الموسيقية التي نعشق، من موسيقاك وموسيقى المبدعين من طرازك” سماع يا حكيم، لاحظ كيف نقلت الموسيقى هون من مقام ل مقام “… فأردّ عليكَ وأتحدّاك بقصيدة تعيد للجو بعضاً من التكافؤ والمرح والمتعة. كيف سأنسى دموع الفرح التي كانت تنهمرُ على خدّي من كثرة الضحك عندما تخبرني تلك الخبريات الرائعة والقفشات والنكات بأسلوبك المشوِّق والسلس والعفوي الذي يطيل العمر. ولما لم يطيل عمركَ إذاً يا صاحب القلب المرِح والكبير؟
لقد غدركَ الموت رغم ثقتكَ بالحياة وبصحتكَ وفخركَ الواضح بوعيكَ الصحي وأسئلتِكَ المتكررة لي عن الحمية الغذائية.
كيف سأنسى أحاديثنا الحميمية عن الشعر والغزل والغوص في محاولات فهم المرأة ومكنوناته..
آخ يا وجدي، الفراق صعب . كُنتُ دائماً ألجُّ عليك بضرورة قيامكَ بمشروعين متوازنين: ما كُنتَ تفعلهُ ومشروع آخر يتضمَّن شيء من الحداثة والنغمة المختلفة والإيقاع السريع. كُنتَ توافقني الرأي وتقول ان الوقت قد حان فعلاً بعد ان إنتهيتَ من ترميم بيتكَ الجميل التراثي في صوفر وأنهت ابنتكَ فرح شهادتها الجامعية وبدأت في العمل. أما بشأن شمعتكَ الغالية ريّان فقد طمأنتني أنهُ يتلقى دروس العود على يد أهم الأساتذة وآثرت أن يكون معلمهُ ذاك الأستاذ “العتيق القاسي” الذي لا مزاح معه لأنه مدرسة. ريّان الذي أسرّيت لي عنهُ أنهُ يحبُّ الطب وأنه يخطِّط لدخول كلية الطب في اليسوعية ويتخصص بطب العائلة كما هو اختصاصي أنا، ولعلنا يوماً ما نفتتح سوياً عيادة مشتركة نفخر بها! ربما فرحكَ بذلك كان لكي لا يعاني إبنكَ ما عانيتهُ انتَ من صعوبة الإسترزاق من الفن في بلدٍ لا يقدِّر الإبداع وفي ظل غياب المؤسسات الثقافية الداعمة وكل معالم الدولة.
وجدي شيا، لا زال لدينا كثيراً من الأحلام المشتركة، ولا تزال شرفة منزلي في عين زحلتا حيث سردناها بالتفصيل شاهدةً وتذكركَ وتذكرُ القائمة الطويلة من الأحلام والمشاريع الفنية الجميلة، فأين ذهبت يا صديقي، وتركتني !
وجدي، وجدي في ألم لا يخفّف منه سوى صوتكَ الجميل ووجهك الباسم وخفة ظلكَ وموسيقاك التي تجوهر النفس وتجمّل الكون من بعدَك !

السابق
جنبلاط من خلده: الجيش بحاجة الى حصانة سياسية
التالي
مصادر المستقبل: حتى الآن لا يوجد قرار خارجي لشنّ حرب على لبنان