مولانا هاني فحص.. ليت الزمان يأتي بمثله

السيد هاني فحص

لم يكن هاني فحص من النوع الذي يمكن العثور عليه بسهولة بين الناس أو بين رجال الدين. كانت سعادتي كبيرة أن أرى هاني فحص في عدد من الندوات. وكانت آخر مرة التقينا فيها في فيينا. كان كعادته مليئا بالطاقة، وفي الوقت ذاته بالأسى والألم العميق.
كما يقول نبينا: «المؤمن بشره في وجهه وحزنه في قلبه»
قرأت له مما كتب الخيام:
القلب قد أضناه عشق الجمال
والصدر قد ضاق بما لا يقال
إلى آخر القصيدة المعروفة.
رفع هاني نظارته الداكنة، ومسح دموعه.
«انظر إلى الدول المسلمة! لماذا يقتل المسلمون بعضهم بعضا؟ أريد أن أقول إن هذا ما جنيناه وحققناه. لا يمكن أن نقول إن هذه مؤامرة من أميركا أو إسرائيل؛ نحن أصل الكارثة. إنها طريقة تفكير شيطانية، كان إبليس يبرئ نفسه من الخطيئة، ويتنصل من المسؤولية، كما ورد في القرآن: «رب بما أغويتني» (الحجر:39).
في المقابل، لم يبرئ آدم نفسه، واعترف آدم وحواء بصراحة بخطئهما، حيث قالا، كما جاء في القرآن: «قالا ربنا ظلمنا أنفسنا» (الأعراف: 23)
لماذا نواجه كثيرا من العداءات بين الدول الإسلامية، وبين الشعوب والأحزاب، وحتى بين العلماء، وليس فقط بين علماء السنة أو علماء الشيعة؛ بل في كل مذهب، يمكننا أن نجد كثيرا من الخلافات فيما بينهم. وإذا كنت تذكر في قُم، أصدر آيات الله، بيانا ضد آية الله العظمى محمد حسين فضل الله، حيث نعتوه بالكفر. فما السبب الرئيس لهذا الإجراء في رأيك؟
يعتقد كل شخص أنه على الطريق الصحيح، وأن خصمه يتحرك على الطريق الخطأ. يعتقد كل شخص أنه سيدخل الجنة، في حين سيذهب معارضه إلى النار! إنهم يعتقدون أنهم يملكون الحقيقة المطلقة، وأن الخصم لا يملك حتى قدرا ضئيلا منها! أعتقد أن المهمة الرئيسة للدين هي الجمع بين الناس ذوي الأفكار وأساليب الحياة المختلفة. إذا أصبح الدين مصدرا للنزاع، فسأكون حينها أنا عالم الدين ضد هذا الدين.
يجب أن يكون الدين مثل الضوء، يجب أن يضيء العالم، وليس أن يزيده ظلاما. وأثناء تحديقه في نهر الدانوب، قال فحص إن الدين يجب أن يكون مثل النهر أو البحر أو المحيط، وليس الصحراء. قال تعالى في القرآن الكريم: «وجعلنا من الماء كل شيء حي» (الأنبياء: 30).
يجب أن يكون الدين مثل الماء الجاري النقي، وليس ماء ملوثا راكدا.
لأكن صريحا معك، في فترة السبعينات، كان في جبشيت رجل دين بسيط للغاية، ووجدت الناس يحتاجون إلى قليل من الفقه أو الشريعة مع كثير من الإيمان. كانت تجربة غريبة، حيث إنه كلما زاد الفقه انحسر الإيمان! يقيم مثل هذا الفقه جدرانا سميكة وعالية بين السنة والشيعة، بل ويخلق فجوات هائلة بين المسلمين واليهود والمسيحيين والعلمانيين. ولأخبرك صراحة، هذا النهج لا يقبل بالمرأة إنسانا كاملا.
تتميز بيروت بأنها مدينة التنوع الجميل؛ حيث يعيش بها السنة والشيعة والكاثوليك والبروتستانت والأرمن والدروز والعلمانيون والشيوعيون.. ومن إلى ذلك. كان هناك رجل دين مسلم يتجنب الحديث مع الشيوعيين، حتى عندما يلقون عليه التحية: «السلام عليكم»، لم يكن يردها. وفي أحد الأيام، جاء شيوعي شهير إلى رجل الدين من الخلف، وقال: «السلام عليكم!»، فأجاب الرجل على الفور: «وعـ…»، ولكنه نظر خلفه فوجد الشيوعي فتوقف عن الرد ولم يكملها. وكانت هذه إشارة ذات معنى بالنسبة لي (وعـ…)!
كيف يمكننا أن نكون ممثلين عن الإسلام، إذا تحدثنا إلى الناس بهذه الطريقة؟
أضاف هاني فحص: «في بلدي العزيز لبنان، دون المسيحيين، سوف يبدو لبنان مثل الوردة التي لا لون لها ولا رائحة. تخيل رجلا دون عينين أو فم أو ساقين. يجب أن يقبل بعضنا بعضا. أؤمن بالهوية المتعددة، وليست الهوية المفردة. أنا (وأشار بإصبعه إلى صدره) مسلم شيعي مسيحي درزي عربي لبناني فلسطيني عراقي إيراني.. إلخ. هذه هي بطاقة هويتي! أنا مؤمن بدون حدود»!
قرأت قصيدة الحلاج على هاني فحص، وكان نهر الدانوب هو الموسيقى المصاحبة:
لقد صار قلبي قابلا كل صورة
إلى آخر القصيدة الشهيرة
نظر هاني فحص إلى عيني وكان من الصعب علي النظر في عينيه مباشرة، فقد كانتا مغرورقتين بالدموع. وحسب الأثر: «هل الدين إلا الحب؟!».
ويقول نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: «المؤمن إلف مألوف، ولا خير فيمن لا يألف ولا يؤلف».
«ما هذا التغيير المفزع في تاريخ جميع الديانات، لقد تحول الحب إلى كراهية؟».
كان على صواب! كان يدعو إلى الصواب. بالنسبة لي، كان هاني فحص رمزا مثاليا للبنان الحبيب، رمزا جرت ترجمته في رجل. في المقابل، كان لبنان هاني فحص، أي رجل تُرجم إلى دولة.
بين حين وآخر، يظهر بعض الناس النادرين الذين لديهم قدرة وكفاءة لكي يكونوا راية بشرية لبلدانهم. يتكون العلم الرسمي من قطعة قماش وسارية طويلة أو قصيرة، ولكن الرايات البشرية مختلفة تماما. على سبيل المثال، كان نيلسون مانديلا وما زال راية دائمة تعبر عن أفريقيا السمراء، كذلك يعد المهاتما غاندي راية الهند.
عندما ظهرت بعض المشكلات داخل الحزب الشيوعي اللبناني، كتب هاني فحص خطابا مفتوحا لهم، أعرب فيه عن قلقه الجاد بشأن الانقسام. تصور أن هناك رجل دين شيعيا يوصي الشيوعيين بتجنب الانقسام، والحفاظ على الوحدة قائلا: «ولعل آخر المخاطر وأقوى المخاطر التي يتعرض لها الحزب هو الانقسام أو الانشقاق..».
بعد أسبوع، في 25/ 6/ 2003، نشر محمد علي مقلد ردا قال فيه: «وأما بعد، حول رسالتك الموجهة إلى الشيوعيين المنشورة في جريدة السفير 20/ 6/ 2003، فأنت بحق مولانا جميعا».
نأمل أن يجد السيد حسن نصر الله وقتا ملائما لقراءة رسالة فحص المفتوحة البارزة إلى «حزب الله».. إنها تحمل الحكمة للجميع، وخاصة لـ«حزب الله».
في إيجاز، كان فحص يرى الآخرين بشرا. ونحن الآن نحتاج أكثر من أي وقت مضى إلى أن يكون لدينا المنظور ذاته. نحن نشتاق إلى البشر الحقيقيين! ينتمي هاني فحص إلى المستقبل وليس الماضي.. لذلك كان في العقد الأخير من عمره يركز على الشباب.
وقد أخبرني ذات مرة قائلا: «أنا لا أحب الزمن الماضي، بل أحب المستقبل!».

السابق
تمديد الخدمة العسكرية في ايران
التالي
معلمو المدارس الخاصة يعتصمون مجدداً