الجيش لا يحسب للمال حساباً

الجيش الاسرائيلي

إن الخلاف حول الميزانية العامة، الذي تصاعد هذا الأسبوع، هو خلاف سياسي في أساسه، أكثر من كونه اقتصاديا. وإذا تم العثور في النهاية على هامش وسطي يتيح لرئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو ووزير المالية، يائير لبيد، إظهار أنهما لم يهزما في المواجهة، فسوف تجد المسألة حلا لها. وبحسب الضالعين في الاتصالات، هناك صيغة اقتصادية للتجسير على الهوة عبر رفع سقف العجز من 2.9 في المئة إلى حوالي 3.5 في المئة بشكل يسمح بزيادة 6 مليارات شيكل على ميزانية الدفاع في العام المقبل. صحيح أن الأمر يتعلق بمبلغ أقل من الزيادة المذهلة التي يطلبها الجيش (11 مليار شيكل)، لكن هذا يبدو كرقم يمكن للطرفين في النهاية التعايش معه، رغم احتمالات الضرر بعيد الاجل على الاقتصاد. وإذا توصل نتنياهو ولبيد إلى استنتاج بأن الانتخابات المبكرة ليست جيدة لليكود ولهناك مستقبل، فسوف يجد الخلاف حلا.

ومسألة تقريبا لا تدخل في النقاش المشبع بالاتهامات والأرقام، لا في الكابينت ولا في الإعلام، تتعلق بالأبعاد الاقتصادية لإدارة الحرب في غزة. وإلى ما قبل حسم ميزانية العام 2015 طلب الجيش الإسرائيلي 8.6 مليارات شيكل لتغطية النفقات المباشرة للحرب (وزارة المالية تقدر المبلغ المطلوب ب 6.2 مليار، والسجال دار حول مسألة أي من البنود يمكن اعتبارها نفقات مباشرة، وليس حول المعطيات ذاتها). وهذه المرة أيضا حظيت إدارة الحرب بسياسة مسرفة، سواء في استخدام النيران أو بحجم تجنيد رجال القوات الاحتياطية.
والأمر لا يدور حول مشكلة جديدة. في العام 2007 قررت لجنة برودت لفحص ميزانية الدفاع، التي عينت في أعقاب حرب لبنان الثانية، أن الجيش الإسرائيلي لا يستخدم أي نموذج لاقتصاد القتال. وجاء في تقرير برودت: «إن سلوك الجيش في الحرب الأخيرة تجاه استخدام النار يشكل نموذجا بارزا. وبحسب شهادة الجيش نفسه، فإن قوة النار التي استخدمت كانت فائضة بدرجة كبيرة جدا وبلغت تكلفتها مليارات الشواقل. وقد وجهت النيران نحو أهداف كثيرة ولكن المقابل لذلك كان متدنيا. وليست هناك جهة في الجيش أو الحكومة مهمتها فحص المسألة وإصدار أوامر بالتغيير… في حين أن الموارد محدودة، والمعنى واضح بالبداهة». وهذه لغة مهذبة مقارنة بالمعطيات الحقيقية: في لبنان تم إطلاق أكثر من 170 ألف قذيفة مدفعية باتجاه مناطق قدروا أنها أطلقت منها صواريخ نحو الجليل. بقدر ما هو معروف: من هذه النيران لم يقتل ولا حتى مخرب واحد من حزب الله.
في حرب غزة كانت الوسائل المستخدمة أكثر ملاءمة لأهدافها، لكن المقاربة العامة بقيت مشابهة. ومعظم المعطيات سرية، ومع ذلك، في المؤسسة الأمنية يؤكدون أنه جرى استخدام مكثف لمخازن حيوية لوسائل قتالية وذخائر. وينبغي التذكير بأن كل هذا تم مقابل حماس، العدو الأضعف في المحيط. وزير الدفاع، موشي يعلون، قال هذا الأسبوع انه راض عن الشكل الذي عمل به الجيش في الحرب. وقرر يعلون «القوات البرية جاءت للعملية جاهزة. في النهاية، ليست هناك حروب رخيصة». وأبدى يعلون أيضا تقديره بأن مقاتلة حماس لن تنشب من جديد في نهاية الشهر وأن الردع الإسرائيلي في القطاع مصان.
وتبدو أقوال يعلون مثل إلباس الواقع أهابا ورديا جدا. وأقواله تتناقض بشكل حاد مع أقوال أطلقها عضو الكنيست من «هناك مستقبل»، عوفر شيلح، الذي يرأس اللجنة الفرعية في لجنة الخارجية والأمن لشؤون بناء القوة في الجيش الإسرائيلي. وشيلح، الذي يراقب طوال سنوات ميزانية الدفاع والشكل الذي يستعد فيه الجيش للحرب، يقدم تشخيصا متشائما جدا. وقال لـ«هآرتس» انه «بالشكل الذي يتم فيه استخلاص العبر من الحرب، فإن كل زيادة في ميزانية الدفاع سوف تلحق أشد الضرر بميزانية الدولة ولن تضيف شيئا لبناء قوة الجيش الإسرائيلي».
وشيلح ليس مراقبا محايدا، وإنما لاعب سياسي، وهو الشريك القريب لوزير المالية المعارض لزيادة ميزانية الدفاع. ومع ذلك، هذه أقوال تستحق الإصغاء لها. وهو يزعم أن الجيش الإسرائيلي «أثبت أنه عندما يعطونه الأموال، لا يعرف كيف يزيد نجاعته كما لا يعرف كيف يستغلها للاستعداد لحرب يمكن أن تواجهه في المستقبل». ويمكن العثور على برهان على ذلك تحديدا في السنوات الأفضل، 2008-2013، والتي حظي فيها الجيش بحصة ميزانية لم ير مثلها منذ عدة عقود. وقد أنفقت الأموال أساسا على هدفين: استعدادات لهجوم محتمل على إيران وزيادة كبيرة في النفقات على القوة البشرية والأجور. وانتفخت نسبة رجال الخدمة النظامية في تلك السنوات بـ 12.2 في المئة. وشيلح يقول: «لم ينتج عن زيادة الميزانية الكثير من الأمن وأيضا ليس استعدادا مناسبا للحرب التي جابهها الجيش الإسرائيلي في غزة».
وفي الحرب الأخيرة أيضا تهربت حماس من المواجهة المباشرة مع قوات الجيش الإسرائيلي التي عملت في القطاع. فمصادر الخطر الأساسية على القوات كانت العبوات الناسفة ورصاص القناصين من بعيد، وهي التي سببت إصابات كثيرة. تم تسجيل معارك وجها لوجه قليلة نسبيا مع مسلحين فلسطينيين وعدد الصواريخ المضادة للدروع التي أطلقت على القوات الإسرائيلية بالكاد يصل إلى عشرات قليلة. ومقابل هذا الخطر استخدم الجيش الإسرائيلي أحجاما هائلة من النيران، من المدفعية إلى القنابل اليدوية والذخائر الخفيفة، من دون الحديث عن ساعات محركات الدبابات وبداهة الذخائر الجوية الدقيقة. وقد فوجئ رجال جيش قدامى اطلعوا على المعطيات الإجمالية مما رأوا.
والمشكلة ليست ما أطلق، فالأعداد الكبيرة مبررة إن كانت توفر أرواح المقاتلين – لكن بما بقي منها. وهنا نشأت هوة. فاستخدام مسرف آخر تم مع رجال الاحتياط، حيث تم استدعاء أكثر من 80 ألفا منهم أثناء العملية. كثيرون جدا منهم كانوا مطلوبين لاستبدال وحدات نظامية على الحدود وفي الضفة الغربية ولتكثيف الحضور في منظومات في سلاحي الجو والاستخبارات. ولكن أكثر من ثلث جنود الاحتياط تم استدعاؤهم لقيادة الجبهة الداخلية وهناك كان بانتظار تشغيل جزئي، في أحسن الأحوال. والنجاح الشامل للقبة الحديدية في اعتراض الصواريخ قلص جدا الأضرار في الجبهة الداخلية ولذلك لم تكن هناك حاجة أبدا لعمليات إنقاذ. ولكن هذا لم يزعج الجيش الإسرائيلي الذي واصل إغراق الجبهة الداخلية، من الجنوب (وبقدر أقل) إلى غوش دان، برجال احتياط لم يقدموا الكثير من الفائدة العملية.
ومنذ العام 2006 خاضت إسرائيل أربع معارك عسكرية، هي واحدة في لبنان وثلاث في قطاع غزة. ثلاث منها كانت أطول مما خطط الجيش له وقدر. والتكلفة المباشرة لهذه العمليات الأربع تقدر بأكثر من 25 مليار شيكل، وهذا حيث تركزت العملية الأخيرة على القتال البري لمدة أسبوعين ونصف اسبوع في قطاع غزة في قاطع عرضه ما بين كيلومترين إلى ثلاثة كيلومترات. ويقول شيلح: «إذا واصلنا بتكاليف كهذه، باقتصاد القتال هذا، فكل ما يحتاج إليه العرب هو مواصلة محاربتنا مرة كل عامين، من دون التطلع أبدا لتحقيق النصر. وبكل بساطة الاقتصاد الإسرائيلي لن يصمد أمام ذلك». ويضيف: «إن نظرية القتال الحالية في الجيش الإسرائيلي، وبنية قواته البرية، لا تناسبان التحدي. وقضية الأنفاق في غزة تثبت ذلك. وهي مثال على أن الجيش استعد فعلا للحرب، لكن ليس للحرب التي واجهها، وبالتأكيد ليس لحماس كما التقى بها في قطاع غزة. وإذا لم يطرأ تغيير على نظرية القتال، فإن أي إضافة مالية لن تساعد. مطلوب عقيدة قتالية جديدة، تتناسب مع الخطر الحقيقي ومنها يتم استخلاص بناء القوة. وينبغي أن يأتي استخلاص العبر وتنفيذها قبل النقاش في مسألة الميزانية. وإلا فسوف نخلد وضعا مرة كل عامين يدور فيه قتال محدود بتكاليف غير مقدور عليها».
وفي أعقاب القتال، اعترف ضابط كبير في هيئة الأركان العامة للجيش «بأننا ينبغي أن نضع نظاما لاستهلاك الذخائر. من ناحية ثانية، من الواضح لنا اليوم أننا نحتاج إلى ذخائر كثيرة جدا في أية سيناريوهات قتال مستقبلية، ستدور في معظمها في مناطق مأهولة. في حروب الماضي، كانت الأمور واضحة والحساب بسيطا. كنت تعرف كم دبابة يوجد في لواء معاد وكم قذيفة تحتاج لتدميرها جميعا. في غزة، منطقة قتال مكتظة، أنت بحاجة إلى إطلاق النار باتجاه كل نافذة مطلة يمكن أن تهدد القوات. هذه أرقام مختلفة تماما».
واعترف وزراء في المجلس الوزاري المصغر بأن مسألة مخازن الوسائل القتالية نوقشت بعمق ولم ينتج من ذلك الأثر المطلوب بشأن طول العملية. ويتوقع عوفر شيلح أنه أيضا في المداولات حول الميزانية القريبة، لم يشغل الكابينت نفسه أبدا باقتصاد القتال كما دار في غزة ولا في الدروس المستخلصة. ويقول: «إن القرارات سوف تتخذ خلال فترة زمنية قصيرة جدا. واللجان الفرعية كرست لميزانية الدفاع عشرات الساعات في السنة الأخيرة. ولكن وزراء الكابينت منشغلون جدا. وليس لديهم أبدا أي وقت للاستعداد للنقاش. إنهم سيصوتون في النهاية على زيادة ستكون حلا وسطا بين 2 و11 مليار شيكل في العام 2015. وهذا المبلغ سيؤخذ من الصحة ومن التعليم، لكنه لن يحقق المزيد من الأمن».

أثر النفق

في منتصف الأسبوع الجاري نشبت من جديد خصومة عاصفة بين وزير الدفاع موشي يعلون ووزير الاقتصاد نفتالي بينت. وما بدأ كسجال حول نقل معلومات من دون إذن من ضباط كبار لوزراء أعضاء في الكابينت أثناء الحرب، غير اتجاهه بسرعة إلى مواجهة حول من الذي حث ومن الذي عرقل الجهد العسكري لمعالجة أمر الأنفاق الهجومية التي حفرتها حماس من داخل القطاع إلى إسرائيل. والجولة الحالية في المعركة بدأها يعلون، لكن بينت رد بسرعة وأثار اتهاما أثقل. إذ زعم أن وزير الدفاع خشي حتى من خطوة برية محدودة كان هدفها تدمير الأنفاق.
ولا خلاف على أنه حينما تم اقتراح وقف النار الأول، بوساطة مصرية، في 15 تموز، وافق نتنياهو ويعلون عليها، رغم أنهما باتا يدركان كامل الخطر الكامن في الأنفاق (بينت اعترض على الاقتراح المصري). ولكن أقوال بينت انطوت ضمنا على اتهام أخطر: انه حتى موعد قريب من اتخاذ القرار بإدخال القوات إلى داخل القطاع، في 17 تموز، اعتقد يعلون أن حماس أبدا لن تستخدم الأنفاق التي بحوزتها. في ذلك الصباح تسلل بالفعل 13 مخربا من نفق قرب كيبوتس صوفا، وبذلك سرعوا المصادقة على العملية البرية.
وفي محيط يعلون ينفون بشدة هذا الاتهام. ويقولون هناك ان بينت لم يبادر إلى شيء، ولم يخترع ولم يدع إلى أي عملية ضد الأنفاق. فقد كانت العملية ضد الأنفاق خطة مرتبة معدة سلفا داخل الجيش الإسرائيلي وتم عرضها على المجلس الوزاري المصغر. وقد تم استخدام هذه الخطة حينما اتخذ القرار بالمصادقة عليها. ويتذكر رجال يعلون أيضا كيف أنه في 17 تموز، قبل بضع ساعات من بدء العملية، التقى بينت مع وسائل الإعلام في عسقلان وفهم الجميع من كلامه أن العملية البرية متوقعة. ويتساءلون هناك: «ما هذا، إذا لم يكن انعدام مسؤولية وخبرة ورغبة في تسجيل نقاط على أمر سبق واتخذ القرار بشأنه؟»
ومع ذلك، يحدث هنا أمر مثير للاهتمام: عضوان مركزيان في الائتلاف: بينت وشيلح، من نقطتي انطلاق سياسيتين مختلفتين جوهريا، يطلقان في الاسبوع نفسه انتقادات فتاكة لسلوك المؤسسة الأمنية حول الحرب في قطاع غزة. وبشكل ما فإن الأمور لا تغير قيد أنملة الرأي الممتاز للمؤسسة ولمن يرأسها عن أنفسهم.

السابق
5 قتلى في حادث سير
التالي
ميزانية كلها مخاوف