الوضع العالمي لا يعكس حتى الآن «نهاية التاريخ» كما رآها فوكوياما

ليبرالية

معظمنا في الغرب ليبراليون, سواد اعترفنا بذلك أم لا, فنحن نريد حقوقاً متساوية للجميع فقد عفى الزمن على التفرقة العنصرية, ونحن نقدر حرية العقيدة ونحترم حرية الاختلاف في الرأي ونسعى لتحقيق نظام اقتصادي يناسب طموحات الفرد.

ومع ذلك هناك شعور متزايد بأن الليبرالية »لا تصل إلى بيوتنا« وليست شعبية كما نظن أن تكون عليه في العالم المتقدم. المشكلة ان التكبر والغطرسة أعميا بصيرة المدافعين عن الليبرالية فلم يدركوا أزمة هويتها, وأصبحوا غير قادرين أو راغبين في الرد على التحديات الملحة التي تواجههم في جميع أنحاء العالم.
قبل خمسة وعشرين عاماً, أعلن فرانسيس فوكوياما عن »نهاية التاريخ« والانتصار الحتمي للديمقراطية الرأسمالية الليبرالية وكانت حجته بسيطة: الديمقراطية تفوز على كل الأشكال الأخرى للحكم بسبب الرغبة الطبيعية للسلام وللرفاهية حتى تضع الدول أقدامها على طريق التقدم الذي يستحيل التحول عنه.
فالدول – حتى لو كانت شيوعية – إذا رغبت في التمتع بأعظم ازدهار ممكن, عليها أن تتبنى قدراً من الرأسمالية. حيث إن تحقيق الثروة يعتمد على حماية الملكية الخاصة لأن »الزحف الرأسمالي دائماً يطلب حماية قانونية أكبر للحقوق الفردية«.
لكن الكثير من النقاد, رأوا في منطق فوكوياما أنه يذكرنا قليلاً بتلك الحتمية التاريخية الزائفة للفيلسوف هيغل التي لعب عليها الماركسيون والفاشيون وأسفرت عن الآثار الكارثية في بواكير القرن العشرين, عندما ظهر مقال فوكوياما في ناشيونال انترست, كان من الصعب ان نختلف معه, فحائط برلين كان على وشك السقوط, وكان الاتحاد السوفيتي ينهار, وكان العالم يصخب تهليلاً للازدهار الاستهلاكي, في عربدة الإثارة حول السوق الحرة. وكان كل شيء يوحي بأن الديمرقاطية الرأسمالية الليبرالية هي التي تتيح للناس الازدهار في عالم يزداد »عولمة« وان التقدم المطرد لاقتصاديات »دعه يعمل« سيضمن المستقبل للدول الحرة الديمقراطية التي لا تعاني من العوز أو القهر, وتعيش في سلام ورضا.

خطا فوكوياما

اليوم يصعب علينا تصور أن فوكوياما قد أخطأ كثيراً فالتاريخ لم ينته, ولم تصعد الليبرالية ولا الديمقراطية. الآن نجد التوافق الغربي المريح الذي استوحاه فوكوياما مهدد بطرق لم يكن ليتنبأ بها مطلقاً. فقد اندلعت حرب باردة جديدة, وتشير »الرأسمالية الماركسية« للصين إلى انك يمكن أن تجني ثروة من دون حرية. والتقدم الذي حققه »داعش« قد يبشر بقيام دولة ذات توجهات أصولية إسلامية.
الأكثر إثارة للقلق هو أن العلاقة بين الرأسمالية والديمقراطية والليبرالية التي تقوم عليها حجة فوكوياما قد انكسرت هي نفسها, في أعقاب أزمة الائتمان والتباطؤ الاقتصادي العالمي. وأصبح من الواضح بشكل متزايد ان الرخاء – في الواقع – لا يخدمه السعي وراء اقتصادات »دعه يعمل« ولا من خلال التوسع الذي لا يرحم في الحريات الاقتصادية, بل ان العكس هو الصحيح تماماً.
وكما يقول توماس بيكيتي في كتابه »رأس المال في القرن الحادي والعشرين«: »لم توسع الأسواق الحرة فقط الفجوة بين الأغنياء والفقراء, لكنها أيضاً قللت متوسط الدخول في كل من الدول المتقدمة والدول النامية. ففي البلدان التي ضربها الركود الاقتصادي بشدة كاليونان وهنغاريا, ابتعد فيها الناخبون عن المفهوم الدقيق لليبرالية, التي اعتقد فوكوياما أنها سيتم اعتناقها بأذرع مفتوحة.
في جميع أنحاء أوروبا, نجد ان مبادئ التدخل الاقتصادي والقومية وحتى العنصرية السافرة, بدأت تجتذب كثيرين ممن كانوا يصوتون لصالح الديمقراطية ومبادئ الحرية ورفع القيود والمساواة أمام القانون. لم تنتصر الديمقراطية الرأسمالية الليبرالية, وبدلاً من ذلك تحول فشل الرأسمالية ضد الليبرالية وبدورها انحدرت الهوية الفكرية الذاتية لليبرالية إلى حالة يرثى لها.
واستشعاراً بأن حجة فوكوياما العملاقة قد اصطدمت »بجبل جليدي«, يحاول دعاة النظرية الليبرالية بجهود يائسة الحفاظ على »سلامة السفينة«, فتكدست على أرفف المكتبات مجموعة من الكتب تحاول ضخ حياة جديدة في الليبرالية, من بينها كتاب لاري سيدنتوب »اختراع الفرد« وكتاب إدموند فاوست: »الليبرالية: حياة فكرية«, وكلاهما يقبل غطرسة فوكوياما التي انكشفت بسبب الأحداث الأخيرة, ولأن التحديات التي تواجه ا لليبرالية ليست وهماً, ومع هذا وبدلاً من مواجهة هذه التحديات مباشرة, تحول الكاتبان إلى الماضي لاستشعار العزاء, والتحقق من صحة النظرية من خلال تسمية مجموعة تعسفية للمثل العليا الليبرالية, ومحاولة إظهار انتصار هذه المثل على كل التحديات عبر القرون. إنهما يسعيان لصياغة رواية تاريخية جديدة قادرة على إثبات صلاح واستقامة الليبرالية, ويؤكد سيدنتوب وفاوست ان الليربالية تنتصر دائماً, وإذا كانت الأمور حالياً لا تسير على ما يرام, إلا أن تلك الأفكار الليبرالية ستسود في نهاية المطاف.
هل ستفوز الليبرالية?

يسارع القادة من مختلف ألوان الطيف السياسي إلى تبني هذا الشكل من »الحتمية التاريخية« ففي بريطانيا تفخر حكومة ديفيد كاميرون التي تمثل الوسط بأنها ليبرالية, ولا تخشى من استخدام التاريخ لتشكيل الجيل القادم من الناخبين إلى شكل ليبرالي مناسب.
ففي وقت سابق من هذا العام حاول مايكل غوف وزير التعليم السابق إعادة رواية الحرب العالمية الأولى كمثال على انتصار القيم الليبرالية على بدايات الفاشية الألمانية وبأنها دليل على الصلاح الذي لاشك فيه لهذا النوع من الليبرالية المتشددة التي يعشقها المحافظون الجدد.
وفي بلادنا نجد الأقرب لذلك هيلاري كلينتون, التي تستهل مراحلها الأولى للترشح لرئآسة البيت الأبيض وقد أعدت وجهة نظر مشابهة في عالم السياسة الخارجية من خلال نظارات وردية, تنأى بنفسها بمهارة عن واقعية باراك أوباما الحذرة في الخارج, وبدلاً من ذلك تستخدم إشارات غير مترابطة من الماضي لتبرير التصدير العدواني للقيم الليبرالية في جميع أنحاء العالم بشكل كبير كلما أمكن ذلك. وإذا وضعنا في اعتبارنا ان التاريخ قد أثبت كيف خاضت الليبرالية العظيمة معارك سابقة ضد الطغيان, إلا أن الحجة تذهب إلى أن الليبرالية ستفوز حتماً إذا قمنا بما يكفي من المعارك, وإذا أبرزنا لذلك ما يكفي من العضلات.
ولكن في حين ان هذه التاريخية الليبرالية لها بعض الجاذبية الخطابية, إلا أنها تفشل في الإقناع وبدلاً من الاعتراف بضعف مقاربة فوكوياما الأصلية يقوم سيدنتوب وفاوست وكاميرون وهيلاري كلينتون بنفض الغبار عن نفس الحتمية التاريخية القديمة, فقط من دون اقتصاديات.
لكنهم ليسوا اكثر اقناعا عما حاول فوكوياما ذلك.
كان فيلسوف الليبرالية العظيم كارل بوبر هو اول من كشف ضعف »التاريخية« كصيغة للتبرير السياسي في نقده المدمر للحتمية الماركسية والغاشية.
ومن المفارقات ان حججه تنطبق الآن على الليبرالية التي سعى للدفاع عنها. اتباعا لحجة »بوبر« من السهل ان نرى – على الاقل – اثنتين من المشاكل المنطقية الاساسية في هذه المقاربة التاريخية لليبرالية, اولها الادعاء بأن اي شخص من الذين عبروا في الماضي عن المساواة, او عن اي قلق للضمير الفردي هو ليبرالي. ان فكرة وجود خط مستقيم للتقدم البشري يتواصل بدءاً من القديس بولس مرورا بلوثر وبالفلاسفة ولويد جورج حتى جاك كينيدي هو عبث واضح. فلهم جميعا تعريفاتهم المختلفة للحرية, وعما يجب استكماله. وثانيا فإن فكرة وجود »قانون تاريخي« يوجه تطور المجتمعات هي فكرة خيالية. حتى لو كان هناك قدر من هذا النمط الغريب الذي يشير الى ان الافكار الليبرالية قد انتصرت حقا في الماضي, فلن يكون اكثر من فضول, ولا يثبت شيئاً عن الليبرالية في حد ذاتها, ولن يقول اي شيء عن المستقبل, انه فقد يقول لنا ماذا حدث من قبل. ان قراءة المعنى والقدرة على التنبؤ لأي نمط في الماضي, هو في الحقيقة مثل »قراءة الفنجان« وقراءة الطالع.
بسبب ضعف حجج مؤرخي الليبرالية الجديدة, تكافح الليبرالية للتعافي مما يمكن تسميته »توعك ما بعد فوكوياما«, لأن المدافعين عنها كسالى للغاية. ويبدو ان سيدنتوب وفاوست وكاميرون وكلنتون يفترضون ان اي شخص لديه ذرة عقل يجب ان يكون ليبراليا, ومن ثم لا توجد حاجة للدفاع عن الليبرالية ضد اوجه القصور فيها. ولكن لن يمتلك هؤلاء الذين يفكرون بهذه الطريقة اي قدر على استرجاع الماضي.
فلا عجب ان وضعنا في اعتبارنا غطرستهم الفكرية.
ان كثيرا من الليبراليين يندهشون عندما يجدون اجزاء كبيرة من العالم ترفضهم – او عندما يزدري الناس محاميهم العقلاء, عندما انهارت الاسواق وتهددت مدخرات حياتهم, بسبب الكوارث التي سببها السوق الحر الرأسمالي.

انهيار الحتميات التاريخية

اذا ارادت الليبرالية الصمود والازدهار لابد من انقاذها من »قبضة فوكوياما«, ومن مخاطر الحتمية التاريخية. انها بحاجة الى إعادة تعريف, والدفاع عنها بشكل كامل مرة اخرى. .وهذا بالطبع يثير سؤالا: ما الليبرالية في الواقع? واللافت ان كثيرا من الليبراليين يقفزون على هذه الخطوة في النقاش كما لو انها غير ذات اهمية. ففي العدد الاخير من »فورين بوليسي« الذي خصص حصريا لاعادة تقييم إرث فوكوياما, كانت المشكلة التي لم تجد لها حلا هي »الهوية الليبرالية« وكان غياب ذلك جلياً. لقد تعثرت المقالات, مقالا بعد الآخر في محاولتها الدفاع عن البدائل الليبرالية لكل من الشعبوية populism او الاشتراكية, لانها – وبالتحديد – لم تقدم فهما مقنعا لمفهوم الليبرالية ما بعد فوكوياما. لكن من المستحيل الدفاع عن الليبرالية ضد منتقديها من دون توضيح ما تمثله الليبرالية بالضبط. سيفوز المتشككون اذا لم يستطع الليبراليون ان يقولوا لهم ما الذي جعلهم يفوزوا فيه, او ما هو الاختلاف عن الفوضى غير الملهمة التي خلقها فوكوياما والسائرون على دربه?

بين الثرثرة والحرية

عندما نكون محاطين بكل هذا الخلط والثرثرة والرطانة التي نجدها اليوم لدى المعلقين السياسيين, يسهل ان ننسى ان الليبرالية يتم تعريفها بأنها التزام بالحرية, والحرية في جوهرها هي مفهوم متأصل في الفرد, الحرية هي كل ما يحتاجه الفرد لتفعيل كامل امكاناته كإنسان وهب القدرة على الابداع والقدرة على اصدار احكام ذاتية قيمة حول نفسه!
صحيح ان الحرية يمكن ان تقرأ بعدة وسائل, وكما لاحظ أشعيا برلين ان هناك حرية ايجابية, هي حرية عمل شيء ما, وهناك حرية سلبية وهي التحرر من شيء ما, وتبعا للظروف قد يصبح احد النوعين اكثر اهمية من الآخر, في حين يميل هذا التمييز الى السيطرة على المناقشات في الفلسفة السياسية منذ الحرب العالمية الثانية, قد يفيدنا ان نستعيد مرة اخرى كتابات فولتير والموسوعيين الاوائل وان نذكر انفسنا بأن الحرية في شكلها النقي – بشقيها الايجابي والسلبي – يمكن النظر اليها على انها تحقيق لكرامة الانسان المتأصلة في ذاته.

مسألة الكرامة الإنسانية

الامر اكثر من مجرد كلمات رنانة. فمفهوم كرامة الانسان له نتيجتان مهمتان, وكلتاهما اعترف بهما شيشرون منذ القرن الاول من قبل الميلاد. ولكن يبدو اننا نسينا ذلك اليوم. النتيجة الاولى: هي اننا جميعا نشترك في نفس القدر من الكرامة, فلا أحد اقل امكانات عن الآخرين, ولا توجد انسانية لأحد ادنى من انسانية الآخر. والنتيجة الثانية: هي أن انسانيتنا تفرض علينا نفس الاحتياجات الاساسية وبحكم طبيعتنا نحن جميعا نحتاج الى الغذاء والمأوى والملبس والامن مع طائفة اخرى من السلع الاساسية الضرورية للبقاء على قيد الحياة والضرورية للكفاية وللصمود. ورغم ان هذا الامر بسيط لكنها بساطة مخادعة, فهذه الاثار لها معنى عميق عندما نفكر في الحرية الفردية لكي تترجم الى بناء اجتماعي وسياسي, واذا تمت ممارسة حرية كل شخص وتوسيع هذه الحرية, فإن مبادئ العدالة والصالح العام يجب ان تكون جزءاً لا يتجزأ من مبادئ المجتمع وبنيته. حيث ان المجتمع تم بناؤه فوق الجميع, بفضل القانون, فإن هذا القانون ينبغي ان يعكس هذه المبادئ. وان تعيش بحرية معناه ان تعيش وفق قوانين ترتكز على العدالة والصالح العام وعندما ينحرف القانون حتى لأصغر درجة عن المبدأين السابقين فيصبح بالضرورة اداة لتحقيق مصالح خاصة, او مصالح فئوية ومن ثم تضييع الحرية.

أخلاقيات المواطنة

لكن مثل هذه الحرية تعتمد على اخلاقيات المواطنة, خاصة لمن يتولون المناصب, في حين يقوم القانون ببناء المجتمع, لكن ارادة الحكام والشعوب هي التي تعطي له شخصيته وقوته.
وعندما يعترف كل شخص بالكرامة الانسانية للفرد, سيعترف بالقيمة الجوهرية للعدالة والصالح العام, وسيسعى بكل دأب للدفاع ليس فقط من خلال حريته, ولكن ايضا من خلال حرية الآخرين في مجتمعهم, ويستخدم في ذلك القانون, عندما ينهار الالتزام بكرامة الانسان, يتحول المجتمع الى غابة يتوجه فيها كل شخص لتحقيق مصالحه الذاتية, ويصبح القانون متحيزاً, ويقوم الطغيان بسحق الحرية.
اختصارا, ينبغي ان تكون السياسة الليبرالية سياسة اخلاقية, ولن تتحقق الليبرالية اذا كان هناك مزيد من التأكيد على الحكم الذاتي الشامل للانسان على حساب الآخرين, ولن تتحقق ايضا اذا كانت مهووسة بالمادية والاستهلاكية. على النقيض من نموذج فوكوياما الذي يستبعد القيم الليبرالية لصالح المصلحة الاقتصادية الذاتية, وهذا ادى الى تدمير المجتمع بشكل كبير في السنوات الاخيرة, لكننا نريد نموذجا يؤكد على الكرامة الانسانية التي تسمح بسياسات اكثر ايجابية لتؤكد نفسها, وبدلا من تشجيعنا بأن نستريح ونطمئن الى ان الليبرالية ستنتصر بالتأكيد, لأن مفهوم الحرية المستندة الى الكرامة الانسانية يعترف بعدم وجود شيء حتمي عن النجاح, وفي حين يرغب كل منها في ان يكون حرا فهذا يعني اننا نتعلق ونتمسك بانسانيتنا المشتركة وكرامتنا المشتركة.
اذا كان لليبرالية مستقبل, فإن ذلك لن يكون من خلال حتمية فوكوياما المحطمة, ولن يكون من خلال التاريخية الليبرالية عند سيدنتوب او فاوست او كلينتون ولكن سيكمن في كل منا, ولن يكون في الاقتصاد او المد والجزر التاريخي, انه يكمن في الاعتراف بالجدارة الانسانية ذاتها.

 

السابق
موسى: لا بد من صدمة ايجابية تعيد الامور الى نصابها داخل المؤسسات
التالي
كأس «السوبر»: لقب خامس لـ«النجمة» أم أول لـ«السلام»؟