عن “عبد الجرافة” ودوراتنا الحزبية

سكَن “عبد الجرّافة” في قريتنا جرجوع لأكثر من سنة، استأجر بيتاً صغيراً يبعد لأمتار قليلة عن منزلنا. كنّا حينها قد بدأنا دوراتنا الثقافية الحزبية وكذلك العسكرية منها، وباشرنا بنقل حياتنا وأحلامنا وآمالنا من بيوتنا الى مركز الحزب الشيوعي…
كان “الجرّافة” وقصصه في الشجاعة على لسان كل شيوعي، بل أنّ حكاياته في المعارك صارت كأسطورة إغريقية في نكران الذات وحب الوطن وعدم الخوف من الموت… صارت على لسا…ن كلّ شيوعي ملتزم أو صديق….
كنّا نسلق قمحاً على زاوية الزقاق عندما رأيته لأوّل مرّة. حول النار و”الخلئينة” تجمع رجال ونسوة وصِبية. جاء للسلام على جيرانه الجدد، هو وأخت له، أذكر أنّ اسمها كان “نبيهه”. أحدهم قال: “هيدا تبع عيناتا ابن زاروبنا الجديد”…
تفحّصت رفيقنا عبد كما يحاول القارىء أن يرسم في مخيّلته صورة لبطل رواية يقرأها… كنت قد سمعت عنه الكثير قبل أن أراه… كانت حكايته مع الجرّافة تُتداول في مراكز الحزب… منهم من يبالغ بسردها، ومنهم من يروي تفاصيلها بدقّة، ليتحول “عبد” الى رمز لبطولة الشيوعيين وتفانيهم في المعارك، وليصبح ذلك الشاب الآتي من جنوبيّ الجنوب، ذلك الفقير الكادح جزءاً لا يُنسى في العنفوان الشيوعي…
أحضرت أمّي من المنزل وعائين صغيرين، ملأتهما قمحاً مسلوقاً لتقدّمهما لعبد وأخته بعد أن أضافت سكّراً وبعض الجوز… كانت أسنانه البيضاء لا تختفي. رُسمت شفتاه هكذا… كانت تلك الأسنان تبان وهو يأكل تماماً وكما هو يضحك… أو حتى وهو صامت لا يتكلّم… تفحصّت تفاصيله جيداً، حاولت أن أقول له بأنني من “أشبال الحزب” وبأنني بدأت التردّد الى المركز في القرية… أردت أن أقول له بأننا نريد جميعاً أن نكون أبطالاً وأن تحفظ أسماؤنا كما إسمه، وتتردد بين أوساط الشيوعيين وأصدقائهم…
خِلت حينها بأنه كان يملك عظاماً متينة لا تشبه عظام الآخرين… بل إعتقدت بأنّ الرصاص لا يخترقها… بنية قويّة آتية من البعيد وروح نُفخت في حقل تبغ بعلي… عيون صغيرة وجلد لامع وشفاه لا تشبه شفاه المقاتلين الأشدّاء… كان يلتهم “كاسة الإلبة” وكأنّه في موقع عسكري متقدّم، وليس على كرسي خشبي في زاروب “الجامع والكنيسة” وسط جرجوع في ليلة صيفية هادئة…
لم نلتقِ بعدها في مركز حزبي أو في موقع قتالي. كان هو “مخصصاً” للمهمات الصعبة في القتال والتدريب. كنّا نسمع بأنّه لم يقل يوماً “لا” لمهمة عادية أو خطيرة… كان يطيع الحزب… جندي يصغي ويُنفّذ… لا يعرف في السياسة ولا في النقاش الغني أو الفارغ سوى أنّ الحزب الشيوعي اللبناني هو الأمل الوحيد لقتل الفقر والعوز، وهو الطريق الوحيد الى حيث الكرامة الانسانية…
أسر عبد الجرّافة لسنوات عند القوات اللبنانية، ثم أفرج عنه بعملية تبادل… كان هذا آخر ما سمعته عنه. شاهدته إحدى المرّات في النبطية، عرفته ولم يعرفني فتابعت طريقي… بدا حينها وكأنّه لم يعد يملك في الحياة سوى نضارة أسنانه البيضاء… كان ” الفقر ” قد بدأ ينهش من بنيته ولمعان جلده وقوة عظامه… تذكّرته، كغيري من الشيوعيين، عندما قالوا بأنه ” مات “!
لعلّ أفضل ما فعله عبد قبل مماته هو أنّه ابتعد كثيراً عن ما يُسمّى اليوم بالحزب الشيوعي. أقول “أفضل ما فعله” لسبب وحيد: عبد الجرّافة هو الحزب الشيوعي… عبد الجرّافة مات ولا يملك شيئاً، بل ربّما “بوكسر أو تيشرت” لإبن مسؤول شيوعي متمكّن في مؤسسة إنتاجية حزبية يكاد يساوي كلّ ما في خزانة عبد وأولاده… هو ابتعد عن الحزب، كما الكثر من أمثاله، لأنّهم تُركوا ل ” غدر الزّمن ” بعد أن أفنى سنواته وسط الرصاص وملائكة الموت…
كان عليه أن يُلفّ بعلم أحمر، ولكنّه إختار طريقاً آخر بعد أن أدرك بأنّ من صار “يملك” العلم الأحمر اليوم مجموعة من تجار المسابح والمستشفيات وغيرها من المؤسسات التي تُنهب وتسرَق… هو شاهد كيف يعيش أبناء تلك الحُثالة، لذلك إختار أن لا يُدنّس جسده وتابوته بأيديهم… ولا أن تُدنّس مسيرته بكلامهم الساقط وأدبيّاتهم الفارغة.
عندما لا يُلفّ جسد عبد الجرّافة بالعلم الأحمر، فهذا يعني بأن الحزب الشيوعي اللبناني قد مات، بل وشبع موتاً، منذ زمن…
أين ضمائركم أيُّها الرفاق “الأوباش”!
(عن الفايسبوك)

السابق
بالصورة: إصابة طفل برصاصة طائشة تزامناً مع كلمة الرئيس بري
التالي
بين عقل البطريرك بولس مسعد وقلب الفلاح طانيوس شاهين