البطريرك الكبير (2): رَفَضَ زيارةَ سورية وأسّس لجسرٍ وطني عابِرٍ إلى «استقلال 2005

أيّد البطريرك صفير اتفاق الطائف رغم سوء تطبيقه، وهو دفع أثماناً باهظة من أجل إبقاء الطائف دستوراً وحيداً للبنان، وظلّ على دفاعه عنه حتى بعد خروج السوريين من البلاد.

عَبَر البطريرك صفير بقوّة وثبات محطات خطرة في تلك المرحلة، ومنها انتخاب الياس الهراوي بعد اغتيال معوّض (22 نوفمبر 1989)، «حرب الالغاء» بكل مفاعيلها وشرورها وما أفضت إليه من شرْخ بين الموارنة، وحرب 13 اكتوبر 1990 التي دَخَلَ من خلالها السوريون الى الشطر الشرقي من بيروت وقصر بعبدا وأطاحوا بعون بعد اعتباره متمرّداً على الشرعية. وكانت تلك المرحلة بالنسبة الى صفير قمة المأساة الوطنية.

وشهد صفير الذي وقف الى جانب اتفاق الطائف، سوء تطبيقه و«سوْرنته» في صورة نافرة. فرغم التأييد المطلق للاتفاق، إلا أن ما كان يجري من عدم مراعاة للتوازنات الطائفية وانتهاك الحريات المستمر، دَفَع البطريرك الى الطلب من القيادات المسيحية مقاطعة الانتخابات النيابية التي جرت العام 1992. وقد رفض إجراء هذه الانتخابات قبل انسحاب الجيش السوري من لبنان وفق ما نص عليه اتفاق الطائف، إذ كان يشهد أمام عينيه انهيار هذه التسوية التي أرادها السوريون أن تبقى حبراً على ورق. والتزم المسيحيون بغالبية قياداتهم بالمقاطعة التي أسفرت حينها عن مجيء نواب بأربعين صوتاً. علماً أن البعض حمّله لاحقاً مسؤوليةَ خروج المسيحيين من الدولة، لكنه لم يكن ليفعل غير ذلك وهو يرى الإمعان في استهداف المسيحيين على يد النظام السوري وحلفائه. وهو عمل جاهداً في الانتخابات النيابية اللاحقة على أن تجرى وفق قانون عادل وألا تكون «القاطرة» هي السبب في اختيار النواب. لكن سورية واجهتْه بقوانين معلّبة، للمجيء بحلفائها وبما يضمن استمرار تطبيق الطائف بـ«نسخته» السورية.

اقرأ أيضاً: «البطريرك الكبير» (1): صنَعَ ربع قرن من تاريخ لبنان و… دَخَلَ التاريخ

لا يمكن اختصار مواقف صفير منذ أن تسلم العصا البطريركية وحتى انسحابه من «الحياة السياسية» ثم استقالته بخفر بكلماتٍ قليلة. فهو حمى الطائف ودافَع عنه ورفض عرضاً من سورية نَقَله إليه اميل لحود يوم كان رئيساً للجمهورية بأنه قادر وبـ«عضلات سورية» على استرداد ما خسِره المسيحيون من صلاحيات في اتفاق الطائف ولكن البطريرك رَفَضَ مقايضةَ تَمَسُّكه بالمطالبة بسيادة لبنان واستقلاله وقراره الحر بأي أثمان سلطوية، لاقتناعه بأن ما ينقذ لبنان هو التفاهم الإسلامي – المسيحي. وهو دفع أثماناً باهظة من أجل إبقاء الطائف دستوراً وحيداً للبنان، وظلّ على دفاعه عنه حتى بعد خروج السوريين من البلاد. كما دافع باستمرار عن قانونٍ عادل للانتخابات، ووقف بشدة ضدّ تعديل الدستور والتمديد للرئيسين الياس الهراوي وإميل لحود، وآلمه الشغور الرئاسي لمرتين، وحاول العمل جاهداً لإجراء الانتخابات في موعدها، فسمى مرتين مرشحين للرئاسة بضغط اقليمي ودولي وفرنسي تحديداً ولكن الأقدار الاقليمية والدولية كانت أقوى منه. عارَضَ مرسوم التجنيس، دافع عن الحريات السياسية والإعلامية وانتقد بشدة الغبن في التعاطي مع المسيحيين في الإدارة. حافَظَ على علاقاتٍ ودية مع كل الأفرقاء السياسيين من الطوائف الاسلامية، وشكّل تَفاهُمُه مع رفيق الحريري ووليد جنبلاط نقطة تحوّلٍ في مسار القضية الوطنية. ورغم كل الهجمات عليه لم يَخْرُج عن الأدبيات التي تتمتع بها بكركي، وظلّ يستقبل حتى الشخصيات التي كانت تنتقده وتُهاجِمُه حتى من على منبره. فبالنسبة إليه الدفاع عن التعايش المسيحي – الاسلامي كان رسالة مقدسة، ومعركته الأساسية كانت ضدّ الوجود السوري في لبنان وممارسة حلفائه مسيحيين كانوا أم مسلمين، وإبقاء لبنان حراً سيداً مستقلاً. حين نزل البطريرك الماروني الى قصر قريطم للتعزية بالرئيس الشهيد رفيق الحريري يوم 15 فبراير 2005، وسط الحشود الغاضبة، كان ذاك اليوم يشهد الترجمةَ العملانية لمسيرة الحرية والسيادة والاستقلال التي أطلقها في النداء الأول للمطارنة الموارنة الذي كتبه صفير حرفاً حرفاً على جهاز الكمبيوتر قبل أن ينْصحه سمير فرنجية باستهلاله بعبارة «بعد أن خرجت اسرائيل».وطالب النداء وكان الأول من نوعه، بخروج الجيش السوري من لبنان. في تلك المرحلة كان النظام السوري يُحْكِمُ قَبْضَتَه على لبنان، ولم يكن من السهل ان يَصدر بيانٌ بهذه الحدة والصراحة التي اتسم بها، عن أعلى مرجعية مسيحية دينية. وجاء في البيان: «بعد أن خرجت إسرائيل، أفلم يحن الوقت للجيش السوري ليعيد النظر في انتشاره تمهيداً لانسحابه نهائياً، عملاً باتفاق الطائف؟ وهل من الضرورة أن يبقى مُرابِطاً في جوار القصر الجمهوري، رمز الكرامة الوطنية، ووزارة الدفاع، وفي ما سوى ذلك من أماكن حسّاسة يشعر اللبنانيون لوجوده فيها بحرَج كبير، كي لا نقول بانتقاصٍ من سيادتهم وكرامتهم الوطنية؟…». وما ان صدر هذا البيان حتى قوبل صفير بحملاتٍ ضده، وتلقّى تهديدات سريةً وعلنيةً، لكنه استمرّ على موقفه على قاعدة «لقد قلنا ما قلناه»، لا بل انه بادر منذ ذلك الحين الى رعاية «لقاء قرنة شهوان» الذي ضمّ شخصيات مسيحية مستقلة وحزبية من مختلف التيارات المسيحية المناهضة للوجود السوري في لبنان، ما لبث ان انسحب منها «التيار الوطني الحر» المُوالي لعون.

وصَمَد البطريرك في وجه «العاصفة»، وواصل اتصالاته واستقبالاته من أجل رأب الصدع الداخلي. وتوّج حركته هذه بين 3 و5 اغسطس من العام 2001 بالمصالحة التاريخية في الجبل مع الزعيم الدرزي وليد جنبلاط. لم تكن تلك المحطة عابرة، بل ضرورية في مفهوم صفير، بعدما أنهكت «حرب الجبل» (1983) المسيحيين، وأطاحت بالعيش المشترك وهجّرت آلاف المسيحيين.

كانت رغبة صفير وجنبلاط الذي بدأ يقترب من مواقف بكركي، بطيّ صفحة الماضي وإنهاء حرب الجبل «سياسياً» بعدما كانت وزارة المهجرين تحاول إنهاءها مالياً، تمهيداً لمصالحة شاملة. وقد شكلت زيارة البطريرك الى الجبل منعطفاً اساسياً في مجرى الأحداث التي توالتْ تدريجاً. لأن ما كان بُني على أساس التهجير والحرب والقتل، طواه صفير وجنبلاط بلقاءٍ جامِعٍ في المختارة ومن ثم في جولة في الشوف وجزين.استشعر السوريون بخطرِ ما حصل، ومعنى الكلمات التي قيلت في لقاء المختارة، والتجمعات التي أقيمت لصفير. فقرّرت الأجهزةُ الأمنية اللبنانية الموالية لسورية أن تُنهي الجولة والمصالحة التاريخية فجر 6 اغسطس 2001 بالتوقيفات التي طاولت شباب «التيار الوطني الحر» و«القوات اللبنانية» التي كانت منحلّة آنذاك، وصولاً الى مشهد 7 أغسطس الذي هزّ لبنان وتخلّله ضرْب وحشي لمتظاهرين أمام قصر العدل في بيروت كانوا يحتجون على التوقيفات، وهو ما أدى الى تصعيدٍ داخلي غير مسبوق.

كان هدف النظام السوري قمْع كل التحركات التي بدأت تشهدها الساحة المسيحية ولا سيما انطلاق أعمال «قرنة شهوان» بقوةٍ ودفاعها عن الشباب الموقوفين. وقد سعى صفير حينها الى التعامل بحكمةٍ مع الوضع حتى لا يزيد من ممارسات النظام السوري. لكنه استمرّ على مواقفه، فأصدر في سبتمبر من العام نفسه النداء الثاني الذي أعاد فيه الكلام عن ثوابت بكركي ومطالبته بخروج الجيش السوري وتطبيق اتفاق الطائف. وبين 2002 و2005، مسيرةٌ رافقها صفير أسبوعياً من خلال عظاته التي لم يملّ فيها من الدعوة إلى الخروج السوري من لبنان، وتوّجها بالنداءات التي دَرَجَ المطارنة الموارنة منذ العام 2000 على توجيهها في سبتمبر كرسالةٍ وطنية. ويكفي انه ظلّ يحمي «قرنة شهوان» ويظلّلها بعباءته، هي التي تحوّلت مع غياب عون الذي أُبعد (1991) الى باريس وجعجع الذي سُجن (العام 1994)، مُدافِعَةً عن حقوق المسيحيين واللبنانين معاً، وظلّت تنطق بلغة صفير وكلامه ومواقفه.

في مقدّمته التي كتبها لمذكراته للكاتب انطوان سعد بعنوان «السادس والسبعون» قال صفير: «ان سورية جاءت الى لبنان بجيشها ونفوذها، وقد كان ما كان مما لا نريد أن نذكره. إنما يقتضي الواجب والتاريخ أن نذكر ان معظم اللبنانيين عملوا ما في استطاعتهم لإخراجها من لبنان. إذ ان هذا البلد منذ عهود بعيدة كان ولا يزال شغوفاً بالاستقلال والسيادة وحُكْم ذاته بذاته. لذلك كانت قبضة السوريين ثقيلةً عليه كباقي مَن حاولوا الاستبداد والسيطرة عليه». منذ العام 2005 وحتى تاريخ استقالته في العام 2011، بقي صفير في صمته المدوّي وفي غيابه عن الإطلالات العامة، صوت الكنيسة الصارخ في البرية اللبنانية والاقليمية والدولية. كان رجل الاستقلال الثاني الذي لم يستقِل من خدمة لبنان والكنيسة. هو البطريرك الذي رفض زيارة سورية رغم كل الإغراءات ورغم طلبٍ بابوي بمرافقة البابا الراحل يوحنا بولس الثاني الى دمشق وأجاب يوماً وعلى طريقته رداً على سؤال حول هل سيزور «قصر المُهاجِرين»: «أين يقع قصر المهاجرين» و«لن أزور سورية إلا ورعيتي معي».

لبنان المسيحي – الإسلامي نعى صفير

يودّع لبنان يوم الخميس البطريرك الراحل الكاردينال مار نصر الله بطرس صفير في مأتم رسمي وشعبي يقام في مقرّ البطريركية في بكركي ويترأسه البطريرك الكاردينال مار بشارة بطرس الراعي. ومنذ أن أعلنتْ الكنيسةُ المارونيةُ رحيلَ صفير فجر الأحد (بعد نحو اسبوعين من دخوله المسشتفى)، واصفة إياه بأنه «أيقونة الكرسي البطريركي وعميد الكنيسة المارونية وعماد الوطن»، لفّ الحزن لبنان وسط طوفان من بيانات النعي من كبار المسؤولين والشخصيات السياسية. وفي هذا السياق، عبّر رئيس الجمهورية ميشال عون عن حزنه الشديد لوفاة صفير، معلناً «بغيابه ستفتقد الساحة الوطنية رجلاً عقلانياً وصلباً في مواقفه الوطنية ودفاعه عن سيادة لبنان واستقلاله وكرامة شعبه في أعتى المراحل والظروف (…) وهو سيبقى معلماً بارزاً في ضمير الوطن، وواحداً من رجالات لبنان الكبار على مر التاريخ». كما نعى رئيس الوزراء سعد الحريري «الراحل الكبير» الذي «ارتفع بالصلابة والقدوة والثبات والشجاعة الى مرتبة الرمز الوطني»، مذكراً بمحطات بارزة طبعها صفير «من نداء مجلس المطارنة الموارنة في سبتمبر 2000 الى مصالحة الجبل 2001 (…)»، وأضاف: «شاءت الأقدار أن تصنع اللقاء التاريخي بينه وبين والدي الرئيس الشهيد رفيق الحريري، اللقاء على القضية الوطنية الواحدة في سبيل الشاغل الواحد، وهو الاستقلال والسيادة الكاملة داخلياً وخارجياً وحرية القرار. وكأنه كُتب لهذين الرجلين الكبيرين، أن يلتقيا في الموعد التاريخي الفاصل، بالإيمان الوطني الواحد، والتطلع الواحد، واليد الواحدة». وأعرب مفتي الجمهورية اللبنانية الشيخ عبد اللطيف دريان عن «الحزن والأسى لفقدان البطريرك صفير الذي كان رمزاً دينياً ووطنياً كبيراً وعاصَر المفتي الشهيد حسن خالد (…)». وقال: «البطريرك صفير مثال للاعتدال والانفتاح والحكمة والحوار والعيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين. وترك في ذاكرة اللبنانيين وقفات مشهوداً لها خلال توليه مسؤولياته الدينية». بدوره، نعى رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط البطريرك صفير، فقال: «وداعاً لبطريرك الاستقلال والمصالحة والمحبة والسلام».

السابق
ساترفيلد في لبنان لترسيم الحدود.. وهذه هي المكاسب الإقتصادية
التالي
الإفراج عن 5 من الموقوفين اللبنانيين بالإمارات والحكم على 3 آخرين