عصر النهضة ومسؤوليتها في تراجع الدين

يشعر المرء وهو يمرّ في هذه الحقبة الزمّنية من تاريخ المنطقة العربيّة والإسلاميّة، بل من تاريخ العالم كله، وهو يشهد هذه الصراعات السياسيّة والدمويّة، ونمو غرائز السيطرة والنفوذ في الدول والأحزاب والطوائف والمذاهب، أن ما نشهده ليس هو حالة مفصولة عن أسباب تاريخيّة تتعلّق في تطوّر الاجتماع البشري، وإذا أردت أن أوضح أكثر فإنني أقول بأنّ عصر النهضة الغربي يشكّل أساساً ومرجعية معرفية للقيم والأحكام والمفاهيم المعاصرة.

يزيد العلامة المفكر السيد محمد حسن الأمين، فنحن نعرف أنّ ثورة العلم بالرغم مما قدّمته من إمكانات ضخمة لتطوير حياة الإنسان إلا أنها كانت ذات تأثير واضح وسلبي على القيَم والمفاهيم والأخلاق الدينيّة عندما اعتبرت أنّ الدين كان وسيلة الإنسان لتفسير العالم والحياة والطبيعة ، عندما لم يكن لدى الإنسان هذه الوسائل العلميّة التي بدأ يكتشف فيها أسرار الكون والطبيعة، بما يعني إلى حدّ كبير أنّ الدين كان ذا طبيعة أسطورية للتعامل مع الكون والحياة والاجتماع البشري فتولّد لدى كثير من المفكّرين شعور بضرورة إلغاء الدّين وإحلال العلم والمعرفة مكانه، ولعلّ أبلغ كلمة جسّدت هذا الاتجاه على مستوى الفكر الجديد، وعلى مستوى الفلسفة الغربية هي كلمة الفيلسوف الألماني نيتشه Nietzsche() عندما أعلن مقولته الشهيرة (مات الله)، هو يعني بموت الله موت المصادر الغيبية لمعرفة الكون، وحلول المناهج العلميّة محل هذا المصدر الغيبي، ونحن إذا كنا نوافق هذه النظرية في مجالات تفسير الظواهر الطبيعية والبشرية في ضوء العلم فإننا لا يمكن أن نتقبّلها بوصفها بديلاً لما يقدّمه الدين للإنسان، فإنّ الدين ما زال ضرورة للاجتماع البشري بل هو في عصر العلم أحوج ما يكون إليه الإنسان، بل يمكن القول أنّ العلم حرّر العقل الإنساني، وبالتالي حرر الدين من الوظائف التي لم يكن الدين أساساً يدّعي أنها من اختصاصه.

اقرأ أيضاً: عقدة الحكم عند الشيعة

وهذا هو مصدرنا للقول بأنّ الدين ليس بديلاً عن العلم وإنما هو ضرورة حتمية لتحرير الكائن الإنساني من كل المصادرات التي كان يتعرّض لها باسم الدين عندما لم يكن الدين مفهوماً ومعروفاً بأنّه وسيلة لتربية الكائن الإنساني، وتوفير المادة الروحية والأخلاقية التي تعينه على بناء اجتماع إنساني سليم ومفعم بقيَم المحبّة والتقارب والوفاء والابتعاد عن الغرائز، غرائز الجشع وحب النفوذ والسيطرة التي أدت وتؤدي إلى كلّ أشكال الصراعات المؤلمة بين الشعوب والأمم، وداخل الشعوب والأمم، والتي ما زلنا نواجهها وندفع ثمناً كبيراً من حقّنا في العيش بأمن وسلام داخل هذا العالم، والدليل على ذلك أنّ تعميم إنجازات العلم ومناهجه لم تؤثر على هذا النزوع الشرير لمزيد من الصراعات، سواءً بين الدول والشعوب والأمم، أو داخل هذه الدول والشعوب والأمم، ألا يرى العالم اليوم أننا بحاجة إلى وسيلة أخرى ليست هي العلم ومناهجه، وإنما هي الالتزام بتعاليم الأديان وأخلاقياتها بمعنى أن العالم اليوم كما كان في أول عصر النهضة الأوروبية بحاجة إلى ثورة علميّة! هو الآن بحاجة إلى ثورة دينيّة إذا صحّ التعبير، وأقصد بهذه الثورة الدينيّة العودة إلى منظومة القيَم والأخلاق غير المختصة بدين معيّن وإنما هي المنظومة المشتركة بين الأديان والتي تشكّل دائرة واسعة لا يجوز الاستهانة بها، فكل الأديان تقوم على قيَم إيجابيّة مشتركة في مجال الأخلاق والسلوك والتعارف.

فإذا قال البعض بأنّ عالمنا الراهن يشهد ثورات دينيّة وهاهي قد أدّت إلى المزيد من العنف بين المجتمعات وداخل هذه المجتمعات فإنّنا نجيب على ذلك بأنّ ما يجري من صراعات هي ليست ذات محتوى ديني حقيقي وإنما هي غطاء ديني لصراعات ذات مضمون غرائزي وسياسي، فالدّين إذن يستثمر ولا يُستعاد، وكي نوقف استثمار الدين لا يمكن أن يتحقق ذلك إلّا بثورة دينيّة تهدف إلى اكتشاف جوهر الأديان، وإلى وسائل تذهب إلى تعميم المشترك الأخلاقي بين هذه الأديان، وفي هذا المجال نرى أنّ ضرورة الفصل بين الدين والسياسة هي ضرورة تحتّمها الغاية التي نطمح إليها، وليس في هذا الفصل ما يسيء إلى الدين بل هو تحرير للدين من شوائب السياسة التي لا تتورع عن استغلال أي مقدس في سبيل مصالحها والدين على رأس هذه المقدّسات.
وهنا أودّ أن أشير إلى ظاهرة تتعلّق في الدين الإسلامي وهو ظاهرة رفع شعار ارتباط الدين الإسلامي بالدولة، فقد نشأ هذا الشعار في مرحلة تاريخية متأخرة، وضمن ملابسات سياسية أدت إلى أن يرفع بعض المفكّرين شعار القول بأنّ الإسلام دين ودولة، ونحن نعلم بأنّ هذا الشعار ليس موجوداً قبل هذه المرحلة المتأخرة والتي رافقت ظروف التراجع السياسي للأمّة الإسلاميّة وخاصّة بعد سقوط الإمبراطورية العثمانية، فهي إذن رد فعل متسرّع على هذا السقوط.

وهنا أودّ أن أعود إلى التوجّهات الفكريّة التي رافقت هذا التراجع، واختلاف آراء المفكرين في معالجته؛ مستخدماً على سبيل المثال لا الحصر ظاهرتين فكريّتين مثّلهما السيد جمال الأفغاني والشيخ محمد عبده تلميذ الأفغاني.
كان الأفغاني ساعياً وناشطاً ومجاهداً في سبيل استعادة الكيان السياسي الموحد للمسلمين، وكان يرى في هذا المجال الشكل الأفضل لاستعادة ما خسره المسلمون على مستوى المكانة السياسيّة، ولكن الشيخ محمد عبده رأى أنّ استعادة هذا الكيان أمرٌ مستحيل في المدى المنظور، وإنّ العمل والدّأب يجب أن يتجه إلى إعادة النظر في المفاهيم الدينيّة التي سادت منذ قرون وكانت سبباً في تراجع المسلمين، ثم الاتجاه ووضع الجهود كلها في إعادة التنشئة والتربية الإسلاميّة وفق مفاهيم الإسلام الصحيحة، أي بناء جيل إسلامي مختلف عمّا سبقه، ومتقدّم عليه في معرفة الإسلام، وأحسب أن منهج الشيخ محمد عبده كان أكثر واقعية من منهج أستاذه الأفغاني، فنحن نعرف أنّ منهج الأفغاني قد فشل ولم يتمكّن من إحداث ثورة سياسية قادرة على مواجهة مشروع الاستعمار الغربي لبلاد المسلمين، أي أنّ منهج الثورة قد فشل وبقي أمامنا منهج الإصلاح الذي تبنّاه الشيخ محمد عبده.
والأمر لا يختلف الآن عما كان عليه في زمن هاتين الشخصيّتين، فنحن الآن كمسلمين نجد أنفسنا أمام ضرورة منهج الإصلاح الديني وفي مقدّمته ـ كما أعتقد ـ هو الفصل بين الدين والسياسة، وقيام توجّه واسع وعضوي، نحو تحقيق هذا الفصل وتركيز الجهود على التعبئة التربوية الدينيّة بما يمهّد لنشوء جيل إسلامي تتوفر فيه عناصر الفهم والاستيعاب العميق لقيَم الإسلام ومقاصده، الأمر الذي يؤدي إلى أفضل أشكال التواصل مع قيَم الأديان الأخرى وأتباع هذه الأديان، والذي يؤدي بصورة خاصّة إلى منع استغلال الدين في سبيل مآرب سياسية، وإنّي لأتساءل: هل إنّ الأمّة الإسلاميّة عاجزة عن إقامة بنية سياسية قادرة على تحقيق حضور فاعل للمسلمين في هذا العصر، بمعزل عن الوهم بأنّ تحقيق هذه القوى السياسيّة لا تتحقق إلّا باستغلال الدين وإقحامه في المسائل السياسيّة؟

اقرأ أيضاً: علاقة التصوف بنكسة العقل في الفكر الإسلامي

في ضوء ما تقدم أقول: إنّني من هنا دعوتُ إلى ما نسمّيه بالعلمانيّة المؤمنة، التي تشكّل في نظري وسيلة المسلمين لتلافي الأخطاء السالفة، ولبناء مجتمع إسلامي حديث محرر من هذا المزج المؤذي والضار بين السياسة والدين.
فالدين إذن هو لتربية الفرد والمجتمع وتعبئته بروح الإيمان والإخلاص، والسياسة هي لتنميته ودفعه للحضور في عصره وتماثله مع الأمم المتقدّمة في هذا العصر.
وبالعودة إلى ما بدأناه أجدّد القول أنّ العالم بحاجة إلى ثورة دينيّة بهذا المعنى تؤدي إلى حضور المضمون الأخلاقي والقيّمي للأديان جميعاً، وبتحقيق هذه الغاية سوف يكون عالمنا أكثر قدرة على التحرر من غرائز القهر والغلبة والأطماع التي تتضمنها السياسات التي تدير هذا الحاكم وتدفعه إلى حتميّة الصراع بين الشعوب والأمم، وليس إلى رحابة العلاقات الإنسانية وميدان الحوار الحضاري الذي يمكن أن يحقّق للإنسان ما يطمح إليه من حريّة وكرامة وضمان لحقوقه كفرد وكجماعة.

(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج العاملي)

السابق
التصوير لم ينته بعد
التالي
شيخ في الشراكة وبطريرك اللبنانية