إيران ومصيدة التصعيد

سام منسى

يبدو أن وتيرة قرع طبول التصعيد في المنطقة ارتفعت الأسبوع المنصرم، مع الكلام الأميركي حول تشديد إضافي للعقوبات ضد إيران، قابله تهديد طهران بالخروج من بعض بنود الاتفاق النووي. وتحدثت واشنطن أيضاً عن معلومات حول عمليات تخريبية ستنفذها إيران، أو من يدور في فلكها من ميليشيات وكيانات مسلحة خارجة عن الدولة ضد مصالح أميركية في أكثر من مكان. وهددت واشنطن بالرد على هكذا عمليات، حال حصولها، محركة البوارج والقاذفات وصواريخ «الباتريوت»، وموفدة وزير خارجيتها مايك بومبيو في زيارة مفاجئة إلى بغداد، على قاعدة «أعذر من أنذر».
وعلى الرغم من هذه الأجواء المشحونة، تبقى اللاءات الثلاث التي كانت موضوع المقالة السابقة السيناريو الأكثر رجحاناً؛ أقله في المديين القريب والمتوسط. فالهدف الرئيس لإدارة ترمب يبقى التوصل إلى صفقة شاملة ومستدامة مع إيران، تضمن عدم تمكنها من تطوير سلاح نووي، وتحد من برنامجها للصواريخ الباليستية، وتوقف تدخلها عبر وكلائها في شؤون دول منطقة الشرق الأوسط. ومع ذلك، يبدو أن أقصى درجات الضغوط السياسية والاقتصادية لم تفلح حتى الآن في جلب إيران إلى طاولة المفاوضات، ما يدعو إلى التفكير، أو أقله التساؤل، حول فعالية هذه السياسة، وإذا ما كانت قادرة حقاً على قطف النتائج المرجوة منها.

اقرأ أيضاً: إيران والضربة القاضية

نقطة الانطلاق هي في معرفة نوايا الولايات المتحدة تجاه إيران: هل تريد تغيير النظام، أو تسعى إلى تغيير ممارساته. في هذا السياق، وعلى الرغم من أن الجميع في واشنطن يتوجس من إيران، ولا يمانع في تشديد الخناق عليها، لا بد من الاعتراف بأن الإدارة الأميركية تواصل إرسال إشارات متناقضة إلى الإيرانيين. ففي حين يؤكد الرئيس الأميركي أن هدف بلاده هو دفع النظام الإيراني إلى تغيير تصرفاته، والكف عن التدخل في شؤون دول المنطقة ودعم الجماعات الخارجة عن الدولة، تحمل تصريحات رئيس مجلس الأمن القومي جورج بولتون، ووزير الخارجية بومبيو، مضامين آيديولوجية تؤشر إلى رغبة في زعزعة استقرار إيران بهدف تغيير النظام القائم. هل هذا التناقض هو من قبيل المناورة، أم أنه انعكاس لضبابية في الرؤية وضياع القرار؟
ما يبقى في صيغة المؤكد، هو أن واشنطن ترمي إلى إعادة ترسيم مناطق نفوذها على نحو يضعّف النفوذ الإيراني، وقد تكون تناور بين حدين: الأول هو دفع إيران إلى الكف عن تهديد المصالح الأميركية ومناوئتها، ومحاولة تغيير نهجها العدائي تجاهها، والثاني هو الدفع باتجاه التأزيم الداخلي في إيران، سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، لإسقاط النظام، أو تدجينه. وهذا ما يفسر تعدد النبرات بين التهديد ودعوة إيران إلى طاولة المفاوضات، كما مسعى إدارة ترمب لتأليب الدول الأوروبية ضد إيران في حال نفذت تهديدها بإعادة التخصيب النووي.
حتى الآن يمكن القول إن استعراض القوة الأميركية هذا هو من قبيل الردع الاستباقي، وقد لا يخرج عن الخط المرسوم منذ فترة في البيت الأبيض؛ أي الامتناع عن التورط في مغامرات عسكرية، والاكتفاء بالتهويل باستعمال القوة ليس إلا.
من جانبهم، يقرأ صناع القرار في إيران هذه المواقف ويبنون عليها. فهم يدركون جيداً خشية واشنطن والأوروبيين، كما دول الإقليم الرئيسية، من الفوضى التي قد تنتج عن تفكك دولتهم، والنتائج الكارثية لذلك على دول الجوار ودول المنطقة، لعل أهمها انفلات حبل أذرع إيران في الخارج على غاربها. من جهة أخرى، يرى الكثير من المتابعين للشأن الإيراني أن نظام الملالي لن يستجيب للضغوطات، ولن يعود إلى طاولة المفاوضات دون خطوات تحفظ له ماء الوجه. لكن إيران اليوم ليست كما كانت عشية فرض العقوبات الأميركية بداية عليها عام 2006، فاستطاعت الصمود حتى نهاية 2013، لتجلس إلى طاولة المفاوضات حول ملفها النووي. فحال الارتباك الإيرانية الراهنة لا تخفى مع التدهور الاقتصادي الذي تشهده، والمرجح أن يتفاقم مع تشديد العقوبات، والتلويح حتى بفرضها على موارد أساسية كتجارة الفستق والسجاد، إضافة إلى قطاع المعادن والصلب. هذا الوضع السياسي والاقتصادي المأزوم يلقي بثقله على الرئيس روحاني، وهو لا يملك مفاتيح الحل، ولا يمسك بقرار الحرب، كما هو شائع ومعلوم.
تبقى مسارب كثيرة متاحة لتسوية صفقة، لأن إيران ستجد نفسها في النهاية بعزلة لأكثر من سبب. فبالنسبة إلى حلفائها الدوليين، تعي إيران تماماً أن روسيا ليست الصديق الذي يعول عليه، نظراً لمصالحها الصاعدة في العالم العربي، ولحاجتها إلى مقايضة مع إدارة ترمب في أكثر من موقع وملف. أما الصين، فهي محكومة بمصالح كبرى مع واشنطن غاية في التعقيد، بينما تواجه تركيا خيبة تلو أخرى في رمال سوريا المتحركة، لا سيما بعد عجزها عن الوفاء بتعهداتها لحماية حلفائها. كل ذلك وسط الانتفاضة التي يواجهها الرئيس التركي رجب طيب إردوغان، داخل حزبه الحاكم، ووسط احتمال اندلاع مقاومة شعبية تبدد أحلامه، واضطراره إلى تقديم تنازلات للأكرد بسبب ضغوطه لإعادة الانتخابات في إسطنبول. من جهة أخرى، يبقى مصير أذرع إيران في الخارج في مهب الريح، لجهة قدراتها وقدرة إيران على تحريكها، أولاً بسبب عجزها عن الاستمرار في تمويلها وفقاً للوتيرة السابقة، وثانياً لأن أميركا شملتها بمجموعة من العقوبات ستشل في نهاية المطاف حركتها. ولا ننسى في هذا الإطار موقف المجتمع الدولي المناوئ لإيران وممارساتها.
بالمختصر، وبعيداً عن التذاكي والتهديدات الفارغة، الموقف الإيراني منهك اقتصادياً، ومتراجع سياسياً، وصموده هش، والرياح لا تجري في صالحه.
لعل هذه المواجهة لا تزال محكومة حتى اللحظة بأن تبقى في خانة اللاحرب واللاسلم، على غرار النزاعات الأخرى في الإقليم، ويمكن حصرها في خانة المناكفة وعض الأصابع، علماً بأن الإدارة الأميركية قادرة، إذا رغبت، على اعتماد مقاربة دبلوماسية مختلفة لكسر هذه المراوحة، ولمواجهة وتطويق السلوك الإيراني، والتوصل إلى مقايضة كبرى. فوحدها واشنطن قادرة من جهة على إعطاء إيران التطمينات التي تريدها، لا سيما لجهة عدم التعرض لنظامها، مقابل عودتها دولة عادية تتخلى عن تهديد استقرار جيرانها، ومن جهة ثانية على تبديد قلق إسرائيل ودول الخليج من الأدوار الإيرانية المتمادية في المنطقة.
إذا صح أن واشنطن تسعى إلى تغيير سلوك إيران دون اللجوء إلى الوسائل الحربية، فالطريق الأقصر أن تعيد تقييم الاستراتيجية التي تعتمدها أولاً، واستعمال سياسة العصا والجزرة ثانياً، وإعادة الروح إلى علاقات واشنطن مع حلفائها الأوروبيين، وتطمين وتبديد مخاوف الحلفاء والأصدقاء في المنطقة ثالثاً. وحتى يتحقق ذلك، سنبقى ننام ونصحو على وقع قرع طبول الحرب.

السابق
إيران والضربة القاضية
التالي
غرق زورق قبالة شكا على متنه 8 سوريين مهاجرين خلسة وتوقيف 3 و5 مصيرهم مجهولاً