روسيا وعقدة المياه الدافئة

مصطفى فحص

في مقاله “نحو إمبراطورية روسية جديدة” يقول منظر العقيدة الأوروآسيوية المفكر الروسي ألكسندر دوغن إن “الإمبراطورية الجديدة يجب أن تقام دفعة واحدة كإمبراطورية، ويجب أن ترسي المبادئ الإمبراطورية الكاملة الأهلية والمتطورة في أساس مشروعها منذ الآن، ولا يجوز إرجاء هذه العملية إلى الأفق البعيد أملا بتوفر الظروف الملائمة في المستقبل، فأمثال هذه الظروف لإقامة الإمبراطورية الروسية الكبرى لن تتوفر أبدا ما لم يبادر الشعب والقوى السياسية الطامحة إلى العمل باسمه منذ الآن إلى توطيد توجهها الجيوبوليتيكي والحكومي الأساسي وبصورة واعية وواضحة”.

دعوة دوغن إلى حرق المراحل والاستعجال في قيام الإمبراطورية يفسر الحراك الروسي المتزايد في تثبيت حضورها السوري بعد تراجع العمليات العسكرية الروسية الموسعة التي حسمت الحرب لصالح النظام السوري.

فما بين الخامس عشر من أيلول/سبتمبر 2015 يوم أعلنت موسكو عن دخولها المباشر في الحرب على الثورة السورية و30 نيسان/أبريل 2019 يوم الإعلان الرسمي عن توقيع اتفاقية استئجاره ميناء طرطوس لمدة 49 سنة، يكون الكرملين قد حقق قفزة نوعية وسريعة على طريق إعادة البناء السريع للإمبراطورية الروسية والتخطيط لتواجد طويل الأمد في بقعة جغرافية شكلت تاريخيا عقدة جيواستراتيجية لطموحات أغلب القياصرة الروس في الوصول إلى المياه الدافئة.

اقرأ أيضاً: «تحرشات» بالسياسات المالية ومحاولة لإخضاع مصرف لبنان لوصاية وزارة المال!

فمن البوابة السورية حصلت موسكو على موطئ قدم دائم على البحر المتوسط مستفيدة من موقع سوريا الجيوسياسي الذي يؤمن لها القدرة على التحكم بحيز جغرافي له أبعاد استراتيجية متعددة (سياسية ـ اقتصادية ـ وعقائدية) يعيد للكرملين جزءا من هيبة الدولة الكبرى التي خسرتها موسكو بعد سقوط الاتحاد السوفييتي، والتخلص من عقدة سقوط جدار برلين باعتباره أكبر خسارة لروسيا في تاريخها الحديث.

هذه الاعتبارات دفعت ورثة الحقبة السوفياتية في دوائر صنع القرار العسكري والأمني إلى التعامل مع الأزمة السورية كفرصة يعاد من خلالها المدى المكاني للواقع الجيوسياسي الذي حقق التوافق الاستراتيجي للمرحلة السوفياتية والذي يمكن أن يحقق المدى القاري الضروري للجزء الجنوبي والغربي من الأوروآسيوية باعتبارها استكمال بناء الإمبراطورية الجديدة التي لا يمكن تحقيقها دون العودة ولو افتراضيا إلى عالم ما قبل جدار برلين.

هذا ما دفع الكرملين إلى التحرك العاجل في سوريا باعتبار أن نظامها يمثل ما تبقى من الجهة الشرقية للجدار لحمايته من السقوط، كخطوة تعيد إلى الأذهان سياسة التوازن الدولي التي عرفت في السابق بتوازن القطبين، أو الدعوة إلى عالم متعدد الأقطاب من خلال الشراكة الروسية ـ الصينية في عدة قضايا دولية، والتعامل من الوجود العسكري الروسي في ميناء طرطوس كقوة ردع عسكرية منافسة للهيمنة العسكرية للولايات المتحدة وقوات الناتو في البحر المتوسط.

وفي هذا الصدد يقول الخبير الروسي في الشؤون العربية أحمد خان شوجانوف “إن إقامة القاعدة البحرية الروسية المتكاملة في طرطوس سيمكن موسكو من السيطرة الكاملة على النصف الشرقي من المتوسط بحيث يصبح بوسعها إغراق أي سفن معتدية، وإصابة كل طائرة تحوم بالأجواء الدولية من بين طرطوس وشرق صقلية”، ويضيف شوجانوف أن منظومة الصواريخ الروسية الجديدة المضادة للسفن تستطيع أن تخترق دفاعات السفن الحربية الأميركية، وهذا باعتراف الأميركيين الذين كشفوا أنهم لا يملكون منظومة دفاع صاروخية مضادة لصواريخ “بال” و”بستيون” الساحلية وصورايخ “أونيكس” و”تسيركون” وصورايخ بحر جو “كينزال”.

من ميناء طرطوس الذي بات تحت السيادة الروسية الكاملة، بعد 38 سنة على الاتفاقية التي وقعها الاتحاد السوفياتي مع دمشق سنة 1971 والتي تنص على بناء قاعدة عسكرية بحرية سوفيتية في ميناء طرطوس، لدعم الأسطول السوفييتي في البحر المتوسط، ثم تحولت لمركز دعم لوجستي وتموين للسفن التابعة للبحرية الروسية بعد سقوط الاتحاد السوفياتي.

ومع توقيع الاتفاقية تكون موسكو قد حققت طموحات القياصرة والسوفييت في الوجود الدائم على سواحل المتوسط، بعدما فشلت محاولات بدأت مع بطرس الأكبر الذي خاض عدة حروب لتحقيق هذه الغاية كان أبرزها معركة أوزف سنة 1696 لوضع حد للتمدد العثماني باتجاه حوض الدانوب وسواحل البحر الأسود والتي كانت أول عملية قيصرية من أجل العبور باتجاه البحر المتوسط، ولكن بطرس الأكبر الذي تلقى هزيمة قاسية على يد السلطان أحمد الثالث اضطر إلى إعادة ما سيطر عليه في أوزف بعد توقيع اتفاقية بروت سنة 1711 حيث كاد القيصر أن يقع أسيرا بيد القوة الإنكشارية لولا الرشوة التي تلقاها البلطجي محمد باشا وسمح للقيصر المحاصر بالفرار.

وعليه فإن الطموحات الروسية في الوصول مجددا للمياه الدافئة فرضت على موسكو تجاوز رواسب الحروب العثمانية الروسية (12 حربا) التي استغلتها بريطانيا تاريخيا بهدف توسيع نفوذها، وهذا ما دفع القيصر الروسي الجديد إلى تجاوز أزمة إسقاط أنقرة للمقاتلتين الروسيتين ودفع تركيا، التي خذلها الناتو، إلى القيام بإعادة تموضع جيواستراتيجي فتح باب التعاون بينها وبين موسكو على مصرعيه بداية من خطوط نقل الغاز عبر تركيا إلى صفقة S400 إلى التعاون الكامل في الملف السوري الذي أصبح جوهر العلاقة بين البلدين وفي هذا الشأن يقول دوغن “إن الملامح الجيوبوليتيكية والأيديولوجية لإمبراطورية الروس الجديدة يجب أن تتحدد على أساس التخلص من تلك اللحظات التي أدت من الناحية التاريخية إلى إفلاس الصيغ الإمبراطورية السابقة”.

السابق
مزارع شبعا المحتلة… أسئلة عالقة بين لبنان وسورية
التالي
نصرالله والتطورات الخطيرة؟