وجيه قانصو: الانتشار الأفقيُّ للسّلطة مكّنها من أن تجرّنا إلى حيث تُريد

وجيه قانصو
ألقى الدكتور وجيه قانصو (أستاذ الفلسفة في الجامعة اللبنانية – كلية الآداب والعلوم الإنسانية)، محاضرة تحت عنوان: "الفلسفة والانتظام العام"، في ندوة أقامها طلاّبه (طلاّب الماجستير)، خصّيصاً لذلك، وتحت العنوان ذاته، مساء يوم الجمعة الواقع فيه 5/4/2019، في مطعم الساحة في بيروت. الطالبة هبة طاهر قدّمت الندوة، التي حضرها عدد من المهتمين، حيث، بعد المحاضرة، ناقش قانصو الأسئلة التي وجّهها إليه بعض الحضور.

هنا، بعض المقتطفات من المحاضرة: …وبما أنني أنا في صدد الاشتغال على العلاقة بين الفلسفة والانتظام العام، أو الانتظام السياسي، فالفلسفة، آخر الأمر، ولنقل، مهما كان الموضوع خارج الإنسان، آخِر الأمر، هي تحاول أن تُسبغ معنى إنسانياً لأيّة حقيقة نحن نتعامل معها، حتى لو كانت حقيقة موجودة خارجنا. لذلك يقولون: إن من أحد مهامّ الفلسفة: البحث عن الحياة الطيِّبة، بطريقة إيجابية، أي البحث الذي يُولِّد الحياة الطيِّبة.
وتحدثوا عن أربعة نشاطات للفلسفة وهي:

  1. التفكير النظري.
  2. المجال الأخلاقي والسياسي الذي يندرج تحته المجال السياسي، عادةً.
  3. الحُكم الجماليّ.
  4. ومسألة الحياة الطيّبة.

… ثمة أربعة مشاهد، في الحقيقة: كان هناك مشهد فلسفيّ يقابله مشهد انتظام سياسي:
1 – المشهد الأول هو المشهد اليونانيّ الذي يقوم على تناغم “الكوزموس”، أي يوجد تناغُم، يوجد انسجام، وبالتالي، هذا الانسجام يفرض عليّ أنا كإنسان أن أكون جزءاً من هذا النظام، أن أندرج في داخله، أن آخذ موقعي الطبيعي فيه، وهذه هي الفكرة الأساسية في هذا المشهد، فبالتالي، هذا النظام، هو أيضاً، فيه شيء من التناغم، من الانسجام، وفيه نوع من التراتبيّة، يعني كل واحدٍ يأخذ موقعاً محدّداً فيه، بحيث أن الذي يكون له موقع “فوق”، يكون له نوع من الهيمنة على الجهة التي تحته، والجهة التي “تحت” يكون عندها نوع من انصياع للجهة التي فوقها.

اقرأ أيضاً: على مائدة العرض، سباق الأيام الأخيرة

2 – المشهد الثاني: لذلك كان السؤال الفلسفي هو: كيف يجب أن أعيش؟ وهذا السؤال الفلسفي الذي – حتى في الانتظام السياسي – كيف يجب على المرء أن يعيش؟ أن موقعك هنا، عليك أن تأخذ هذا الموقع، وعليك أن تلتزم بهذا الموقع. وهذا ليس اختيارك، لأن الطبيعة فرضته عليك. و”فكرة الجوهر”، – في الحقيقة – هي بحثٌ عن الخواصّ الطبيعيّة الجوهرية في الأشياء، التي هي ليست باختيارها. حتى أنا (الإنسان) من طبيعتي أن أكون من المجتمع السياسي؛ من طبيعتي أن أكون امرأة؛ أو من طبيعتي أن أكون طفلاً؛ من طبيعتي أن أكون عبداً… هذه الطبيعة هي التي فرضتها عليّ. وهي التي يجب أن أخضع لها، لأنها جزء من نظام الكون المتناغم وأيّ خلل او خروج على هذا النظام، هو إخلال بهذا النظام. الفكرة الفلسفية هي هكذا، والفكرة السياسية هي هكذا، كانت تشتغل تحت إطار: “كيف يجب أن أعيش”؟

3 – المشهد الثالث: هو: “الفترة المتوسطة” وفي الفترة المتوسطة دخلت “فكرة الله”، في الإطار الفكري والسياسي، أيضاً. فصحيح أن الله كان موجوداً في الفكر اليوناني، لكن الله كان جزءاً من نظام العالم، يعني هو المحرِّكُ الأوّل، هو العِلّةُ الأولى، لكنه جزء من هذا “الكوزموس”، والآلهة جزء من هذا العالم، فحتى الآلهة التي اخترعوها جزء من هذا العالم.

…فإذن أصبحت العلاقة بين الكائن الأول المتعالي، ولنسمِّه “الله”، (وهنا أنا أتحدث بتعابير فلسفية)، وبين باقي الكائنات، هي علاقة “تعلُّق”، علاقة فقدان، فالإمكان هو نوع من الوجود العدميِّ، أساساً، هو لا يخرج إلى الوجود، إلا بإرادة الله، أي الذي يخرجه من حالته العدمية، إلى حالته الوجودية، هي إرادة “واجب الوجود”، وهذه الفكرة انعكست في المجال السياسي. أي أنه بما أن هنالك إرادة واحدة في العالم، فهنالك أيضاً، لا مكان إلا لإرادة واحدة في النظام السياسي. فبدأ التأسيس السياسي يعمل على قاعدة: البدء بالتنظير: إنه بما أن إرادة الإنسان، يجب أن تكون تابعة لإرادة الله، فالإنتظام السياسي ليس شأناً من شؤون الإنسان، بل يجب أن يكون، هو أيضاً، تابعاً لله. وكما أن العالم تُسيِّره إرادة واحدة، فكذلك في المجال السياسي، لا بد من أن تُسَيَّر إرادة الإنسان، بإرادة واحدة، هي المركز. من أجل ذلك، هيغل كان يقول: إن في المجتمعات الشرقية توجد حرية واحدة” لكن هي حرية الحاكم. وما عدا ذلك، لا توجد حريات، إذ إن هنالك إرادة واحدة. داخل المنظومة الدينية، هنالك إردة واحدة، التي هي تُعبِّر وتُجسِّد أو تُماثِل إرادة الله، فمثلما أن الله يدير هذا الكون، ويُدَبِّر هذا الكون، فإن المجال السياسي، لا بد من أن يكون على شاكلة الإدارة والتدبير الإلهي للكون من خلال أن يكون هنالك حاكم واحد، ويتميّز بخصال وصفات استثنائية، وهذه مسألة مهمة جداً، خاصة في “دائرة التفكير الإسلامي”.

… إلى أن جاء ميكيافلّلي، يقول لنا: “إنّ السياسة أوّلاً، أي بمعنى أن السياسة، لم تعد فعلاً أخلاقياً، وهذا هو الجانب الآخر. فالفعل السياسي، فعل قائم بذاته، أي أن له، أيضاً، أدواته، فالفعل السياسي أيضاً، ليس فعلاً أخلاقياً. فالعالم لم يعد محكوماً لإرادة واحدة. فعندما أقعد لأفكِّر وأفهم العالم لم أعد أفكر أن هذا العالم خلقه الله، وكيف إرادة الله. بل أفكر بأن هذا عالم، آخذ كل ظاهرة من ظواهره، بظواهرها، فالحسّ، هنا، هو الأساس، والتجربة هي الأساس.

4 – والمشهد الرابع هو “المشهد الفلسفي”: وهو متمثل بأنه أصبحنا، لاحقاً، نرى أن كل هذا الكلام، هو قائم على أساس الإرادة الواعية، التي تعي فعلها، التي تعي قصدها، والتي تقدر أن تصنع مصيرها وعقلها يسمح لها، بأن تُنَظِّم العالم أو تتداخل العالم، أو تُغيَّر تنظيم العالم. فبدلاً من أخضع أنا للعالم أصبح العالم يخضع لي؟ هذا التفكير الحداثوي هو هكذا.

اقرأ أيضاً: العلامة الأمين: ضرورة توفر رجال الدين على الفلسفة

… إن السلطة لم تعد مربوطة بأفراد/ بأشخاص، لم تعد مرتبطة بنظام حكمٍ، أصبحت “شبكيّة”، لها منطقها وبنيتها ونشاطها، وفي الحقيقة، إن الفلسفة هي التي تستطيع أن تأخذنا إلى هذه “المنطقة” (الخفية)، من أجل أن تقول لنا: عليكم أن تتنبهّوا إلى وجود أمكنة أنتم مستعبدون (بفتح الباء) فيها، وهي غير الأمكنة التي، أنتم فكّرتم فيها. وعندما تقومون بممارستكم للحرية، إنما أنتم تفكرون فحسب، أنكم تمارسون حرية، بينما أنتم – في الحقيقة، تتوغلون في عبوديّتكم، لأنكم ما زلتم خاضعين لنفس منطق السلطة. ومن أجل ذلك، حتى في تحليل السلطة، أصبح الكلام يدور حول ثلاثة أبعاد: البُعد الأول، هو الشكل الظاهر من السلطة، أي أنه يوجد صراع إرادتين، والإرادة التي تحكم، هي التي تَغلب، هي التي تُمسك كل شيء، وتقوم بالتغيير؛ لكن ليس هذا هو الذي يتحكّم بالسلطة.

والبعد الثاني وهو الذي يسمّونه “قواعد اللعبة”، ويسمّونها هذه القواعد أيضاً، “قواعد المنْع”، أي أنه ممكن، مرات، في السلطة، يوضع إطار، وقواعد لعبة، بحيث أنه يصبح هناك نوع من إقصاء لجماعات أخرى، تصبح خارج اللعبة. والبعد الثالث، هو البعد الذي يجعل السلطة جزءاً من كينونتي، وجزءاً من ثقافتي، فيصبح السؤال العميق، ليس أنه “مَن الذي يحكم؟”، إنما السؤال العميق هو “كيف أتمثَّلُ هذه السلطة، في سلوكي ووعيي وحياتي اليوميّة؟ وهنا نحن ندخل إلى عالم هذه السلطة المنتشرة انتشاراً أفقياً، وليس مجسدة بشخص، ولا بفرد، بل بالعكس كلنا في داخلها، وهي تجرّنا وتأخذنا، إلى أي مكان تريده، من دون أن نشعر أنها هي تتحكم بنا، فلقد أصبح الكلام في هذا المستوى من تحليل السلطة. وفي الحقيقة، هذه المسألة عكستْ السؤال الفلسفيّ: إنه خلف الإنسان المريد الواعي، هنالك مستويات أخرى لا واعية، وغير خاضعة للمقصد الإنساني والحرية الإنسانية، فدائماً ما نرى هذه “الأنالوجي” بين مستوى التفكير الفلسفي النظري ومستوى تفكير الانتظام العام.

السابق
شقير: السجالات والمزايدات وتسجيل النقاط أدوات غير مناسبة لموقعة الموازنة
التالي
مصر تقر التعديلات الدستورية بموافقة 88.83 بالمئة من المصوتين