حرب الأوهام المستمرة 

 لم تكن الحرب التي إندلعت في 13 نيسان 1975 ، والتي " إحتفل " اللبنانيون بذكراها الأسبوع الماضي إلا حرب الأوهام التي عاشها كل أطراف النزاع لبنانيين وفلسطينيين ، عربا وإسرائيليين . هل هي باتت ذكرى فعلا ؟

أوهام خلفت كوابيس وصحت منها غالبية الأطراف اللبنانية على حقيقة واحدة وهي الخراب في لبنان صاحب الأرض التي جرت عليها هذه الحرب التي ولدت حروبا ولم تزل نارها حتى اليوم تحت رماد التسويات الموقتة.

نقول الأوهام لأن كل طرف من الأطراف كان لديه وهم خلقه هو ومن وراءه من الأطراف الأقليمية والدولية وعايشه على أنه حقيقة وهو في الواقع كان بدلا عن حقيقة ضائعة رفض العقل تقبلها والتعامل معها ، كان وهم النظام الطائفي المتمثل بالمارونية السياسية وقتها – وهي بالمناسبة تضم كل الطوائف – هو فزاعة التوطين الفلسطيني التي صدقها وأقنع نفسه وبيئته بها كي يضمن ولاءهم وطاعتهم ، بدلا من مواجهة الحقيقة الساطعة المتمثلة بإفلاس هذا النظام يومها وفشله في إستيعاب المتغيرات التي طرأت على المجتمع والناس ، وعجزه عن مجاراة روح العصر والتأقلم معها وهو ربما كان لا يزال ممكنا يومها عبر بعض الإصلاحات التي كان يتطلبها هذا النظام لضمان إستمراريته ولو في ظروف “حرب سياسية باردة” بدل الحرب الأهلية الساخنة التي وإن كانت حرب الآخرين على أرضنا إلا أن هذا لا يعفينا من المسؤولية نتيجة الإنجرار وراء أوهامنا التي كانت السبب ومهدت الطريق للتدخل الأجنبي والأقليمي وجعل لبنان ساحة حرب لكل من هب ودب.

اقرأ أيضاً: الحرب «لن تنعاد»… لأنها مستمرة!

في المقلب الآخر كان الوهم الذي خلقه وعاشه الطرف الآخر من لبنانيين وفلسطينيين هو وهم الثورة الكاملة ومحاولة تغيير العالم بأسره عبر خوض حرب “عالمية” بقيادة اليسار الدولي ضد الأمبريالية والرأسمالية المتمثلة يومها من وجهة نظر هذا الفريق بـ”اليمين اللبناني الإنعزالي”، فضلا عن خوض معركة تحرير كامل التراب الفلسطيني المحتل عبر البوابة اللبنانية فقط وخارج إطار النظام الرسمي العربي في فعل ثوري طفولي وبعيد عن الواقع أججه ربما تزامنه مع إنتصار الثورة الفيتنامية ، وبعيد عن الحقائق الموضوعية التي كانت تتمثل يومها في إتجاه النظام الرسمي العربي إلى إنتهاج مسار التسوية بعد إتفاق فك الإشتباك بعد حرب تشرين ، الأمر الذي كان يقتضي التروي والإستمرار في النضال السلمي وعدم الإنزلاق إلى العنف والحرب التي رأى فيها هذا النظام الرسمي العربي – وهنا يتجلى الوهم العربي الرسمي – نوعا من الثورة والتمدد الشيوعي في زمن ” الحرب الباردة ” بين قطبي العالم يومها أميركا ومعها حلف الناتو، والإتحاد السوفياتي ومعه حلف وارسو ، الأمر الذي يهدد وجود هذا النظام العربي ما جعله يحاول إيقافها عبر إدخال أحد أنظمته ألا وهو النظام السوري إلى لبنان تحت مسمى قوات الردع العربية لكي يقضي على هذه الشرارة قبل أن تتمدد، فكان أن دخل السوريون لبنان على دم كمال جنبلاط ، ودم الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية ليبدأ هنا الوهم السوري بالسيطرة على لبنان وعلى القرار الفلسطيني ليكونا مجرد أوراق يطرحها على طاولة المساومات متى حان وقتها وهو دور أحسن إتقانه لفترة طويلة، عبر حروبه التي خاضها في الداخل اللبناني ضد كل الأطراف اللبنانية والفلسطينية تقريبا، قبل أن تدخل إسرائيل بجيشها وتجتاح لبنان وتخرج منظمة التحرير الفلسطينية منه.

وهنا يبدأ الوهم الإسرائيلي المتمثل بتوقيع إتفاقية سلام بين البلدين ليكون لبنان البلد العربي الثاني بعد مصر الذي يعطي السلام لإسرائيل ، ولكن هذا الوهم كان التمريرة الإسرائيلية للنظام الإيراني كي يستغلها ويدخل إلى الساحة بإسم المقاومة ويستجلب معه إعادة النظام السوري إلى بيروت ليصل لبنان والمنطقة كلها إلى وهم السلام الآتي عبر مدريد من رحم أزمة إجتياح العراق للكويت التي كان من تداعياتها إسقاط وهم جديد برز مع تولي العماد ميشال عون رئاسة الحكومة العسكرية بعد تعذر إنتخاب رئيس جديد للجمهورية مع إنتهاء ولاية أمين الجميل، وهو وهم “تحرير” لبنان من الجيش السوري بالقوة وبقرار فردي وبدعم من نظام صدام حسين، والذي ما لبث أن تحول إلى وهم جديد بإلغاء الميليشيات بالقوة وبقرار فردي آخر وعلى رأسها القوات اللبنانية المسيحية الأمر الذي ولَّد حربا ضروس قضت على ما تبقى من معارضة للوجود السوري وسهل بالتالي فرض هذه الوصاية مع تغير الظروف الدولية جراء حرب تحرير الكويت وخرج بنتيجتها عون إلى فرنسا ودخل جعجع إلى السجن.

نقول هذا لا إنتقاصا من دور أحد ولا تسفيها للمواقف ولا إستهانة بأرواح الشهداء من كل الأطراف الذين أستشهدوا وهم على قناعة تامة بأنهم يسعون للأفضل، ولكن نقوله ونستعرضه نقدا لأخذ العبرة من الأحداث والمآسي التي تراكمت على وطننا دون أن تنتج إلا سرابا.

في العام 2000 حصل التحرير وقضي على الوهم الإسرائيلي بالسلام مع لبنان ، وكانت أحداث 11 سبتمبر وما تلاها من غزو للعراق وإحتلاله وبداية الحديث عن ضرورة إنسحاب القوات السورية من لبنان الأمر الذي جوبه بالرفض من قبل سوريا وحلفائها ودفعها لتمديد ولاية الرئيس لحود قسراً الأمر الذي كان له بالغ الأثر في الوضع اللبناني نتج عنه إغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري وإندلاع ثورة الأرز التي أطاحت بالوهم السوري بالسيطرة الدائمة على لبنان وأخرجت القوات السورية منه بدعم عربي ودولي .

كان إنسحاب السوريين من لبنان فرصة للبنانيين إذ لم يعد على الأرض اللبنانية من جيوش غريبة بإستثناء بعض الجيوب الفلسطينية، ولكن الفرصة ضاعت ولم يحسن اللبنانيون الإستفادة منها مع دخول الأوهام مرة أخرى إلى العقول، وهذه المرة الوهم الإيراني عبر حزب الله بالسيطرة على لبنان وجعله منفذ لإيران على المتوسط وجزء لا يتجزأ من الإستراتيجية الإيرانية في المنطقة الأمر الذي تجلى بوضوح في الحرب السورية وتدخل حزب الله فيها كأحد أهم أطراف المعادلة العسكرية وكان لها بالغ الأثر على التطورات في سوريا قبل التدخل الروسي الذي غير وقلب كل المعادلات وبات هو بطبيعة الحال صاحب الكلمة الفصل بإعتباره الأقوى على الأرض وصاحب الفضل في بقاء النظام وإعادة سيطرته على أجزاء مهمة كان قد خسرها من الأرض السورية.

ولكن التدخل الروسي بات مع الوقت غطاءً للإعتداءات الإسرائيلية التي تجاوز عددها المئتي غارة ، كما بات مصدرا لتقديم “الهدايا” للعدو الصهيوني وعاملا مهما في إزالة آثار معركة السلطان يعقوب في الأراضي اللبنانية إبان إجتياح العام 1982، من تسليم للدبابة التي غنمت إبان المعركة إلى تسليم رفات أحد الجنود، إلى الحديث مؤخرا عن إعادة رفات الجاسوس الصهيوني الذي أعدم في دمشق في العام 1965.

كل هذا في الوقت الذي بات لبنان في ذكرى حربه الأهلية ال 44 ، بلدا منكوبا وعلى حافة الإنهيار الإقتصادي بعد أن إنهار سياسيا بحيث لم يعد هناك من حياة سياسية سليمة في ظل غلبة طرف سياسي وعسكري وحيد يتحكم بالبلد بدرجة كبيرة إن لم تكن كاملة ،هذه الغلبة المستمدة من الوهم الإيراني وفائض القوة التي تمارس على الأطراف الأخرى، وللدلالة على هذا الواقع المزري يكفي أن نشير إلى الأخبار الأخيرة المتزامنة مع تسليم رفات الجندي الصهيوني وهي الأخبار التي تحدثت عن أن العلاقات بين حزب الله والنائب السابق وليد جنبلاط قد جمدت على خلفية قضية معمل الإسمنت في عين دارة ولن نزيد ونسترسل كي لا نتهم بالتصويب على أحد سياسيا فالهدف ليس كذلك، ولكن لمحاولة تصويب المسار والمقارنة بين ما وصل إليه العدو الصهيوني من نجاحات شئنا أم أبينا، من إعتراف أميركا له بضمه للقدس والجولان، إلى نجاحه بإطلاق مركبة فضائية رغم فشل محاولة النزول على سطح القمر، وما وصلنا إليه نحن في لبنان من واقع أليم فاشل على كل الأصعدة بحيث باتت قضية كقضية معمل فتوش للإسمنت تتطلب مداخلات من حزب الله الذي هو في النهاية يقدم نفسه على أنه يمثل المقاومة، فما علاقة المقاومة بمعمل للإسمنت كي تتأثر علاقة مكونين لبنانيين به مع ما يجره هذا من توتر بين الطرفين.

اقرأ أيضاً: يوم كان النضال بلا وزير وكان الجهاد بلا لحية

لذلك نقول أن الوضع الذي نعيشه ما هو إلا نتيجة رهاناتنا الخاطئة المستمرة والأوهام التي نخلقها ونعيشها بعيدا عن الحقيقة والواقع، وبالإعتماد فقط على العنتريات اللفظية والتحديات التي لم تجلب لنا سوى الخراب على مدى تاريخنا المعاصر، والتي جعلت من الحرب التي نحتفل بذكراها حربا مستمرة بألف طريقة وطريقة بعد أن مضى حوالي جيل كامل على إنتهائها رسميا في العام 1990، ونحن اليوم على أبواب مئوية لبنان الكبير.

فإلى متى سنبقى ضحايا الأوهام الكبيرة والصغيرة؟ ومتى سنقتنع بأن هذا البلد لا يحكم بالقوة والغلبة، بل بالسياسة القائمة على إحترام القيم الديمقراطية وإحترام التنوع والتعددية الثقافية والفكرية والسياسية، وأن الأحادية لا تليق به ولا تقوده إلا إلى الهلاك حتى ولو ظن البعض لوهلة بأن الأمر قد إستتب له لفترة قصيرة كانت أو طويلة فما هذا إلا وهم كبير آخر.

 

السابق
بعد البشير.. عبد الله والعباس و«رموز» أخرى إلى سجون السودان
التالي
جنبلاط: لمصارحة الرأي العام مع الالغاء الكامل لامتيازات الوزراء والنواب والجميع