الحريّة وتسيّد مفهوم «القهر والغلبة» في الاجتماع الإسلامي

يواصل العلامة السيد محمد حسن الأمين الإضاءة على مفهوم الحرية في الاسلام، ويتطرق إلى الانحرافات التاريخية التي أعادت تأسيس مفهوم القهر والغلبة، كمفهوم لا يتصل بجوهر الإسلام ولا بالحرية التي أطلقها كشرط للإبداع والارتقاء بالانسان على وجه العموم.

قد يسأل شخص كم هي حريّة المتديّن في مواجهة الآخر..؟ هل له أن يستهين أو يشتم ما يعتبره الآخرون مقدّساً لهم؟ أو أن يتناول ـ على سبيل المثال ـ المؤمن ديناً آخر من الأديان، ويسخر من عقيدة الآخر بسبب أنه يرى هذه العقيدة أو تلك الممارسات الدينيّة لا تنسجم مع عقيدته الإسلاميّة التي يعتنقها، فيعطي لنفسه حريّة تَسفيه الآخر وتسفيه عقيدته وطقوسه الدينيّة؟

أجيب على ذلك بالقول: إنّ الحريّة مبدأ مقدّس، وهي ليست حكراً على فريق دون آخر، أو على شخص دون آخر، فهي حق للجميع، وأنّ المسلم الذي يعتقد أنّ ما يؤمن به هو الحق ويلتزم بهذا الاعتقاد لا يمنحني هذا الاعتقاد حق التهكم على عقائد الآخرين، ولكنه وبموجب مبدأ الحريّة لا يحول بيني وبين مناقشة الآخرين ولو تضمّنت هذه المناقشة نقداً لعقائدهم، شرط أن يكون هذا النقد موضوعياً لا يتضمّن أي شكل من أشكال السخريّة والاستهزاء اللذين يشكلان عدواناً على مقدّس آخر يوجد من يتبنّاه ويعتقد به ويحترمه.

اقرأ أيضاً: العلامة السيد محمد حسن الأمين… لهذا شكّل القوة الثالثة

والدّعوة الإسلاميّة في أساسها لا ترى أنّ الدين ـ الإسلامي خاصّةً ـ يمكن فرضه بالإكراه على الآخرين، وذلك احتراماً لحق حريّة الآخر من جهة، ولكون عملية الإكراه يستحيل أن تنتج في وعي الآخر وفي عقله وفي قلبه إيماناً بأيّ عقيدة أو مقولة لا يستطيع أن يؤمن بها، أو حتى لا يريد أن يؤمن بها، ومن هنا كانت واضحة الآيات القرآنية التي تناولت هذا الجانب.

أمّا ما يمكن أن يقال عن الحروب التي خاضها الرسول الأعظم ضد المشركين أو اليهود أو غيرهم من غير المؤمنين فإنها لم تكن بحال من الأحوال حروباً من أجل فرض الإيمان بالقوّة، ولكنها كانت تنطلق من اعتبارين: أحدهما: الدفاع عن الإسلام والمسلمين عندما يُعتدى عليهم، والاعتبار الآخر هو أنّ هذه الحروب كانت تُخاض أحياناً في مواجهة القوى المستبدة التي كانت تمنع وبواسطة القوة، المسلمين من الدعوة إلى دين جديد إذ أنّ الدعوة إلى الدّين هي حق، وهي أحد الحقوق التي يتضمّنها مبدأ الحريّة في الدعوة إلى أيّ دين أو عقيدة، ولكن دون استعمال وسيلة الإكراه في فرض هذه الدعوة على المجتمع الذي أراد المسلمون أن يشرحوا لهم دعوة الإسلام.

فكان لا بدّ من تمكين الدّعاة المسلمين من عرض دعوتهم على القبائل العربيّة مثلاً ثم على الأمم المحيطة بهم.
وكان الاستبداد السائد من قبل سلطات القبائل، أو سلطات الأمم الأخرى يمنع المسلمين من ممارسة هذا الحق فيدافع المسلمون عن حقّهم في نشر هذه الدعوة وإسماعها إلى كلّ الناس.
وبعبارة دقيقة وملخّصة فإنه يمكن القول بأنّه لا يوجد في الإسلام ما يسمى بالجهاد الابتدائي، بل إنّ الجهاد المشروع في الإسلام هو الجهاد الدفاعي، وهذا لا يتنافى مع مبادئ الحريّة وقواعدها كما يُفترض أن تكون عليه في السلوك الإنساني.

نقد ذاتي:
بعد الذي شرحناه في دائرة مفهوم الحريّة واعتبار الإسلام في نصوصه وعقائده يقدّس هذه الحريّة، فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا: هل إنّ الاجتماع الإسلامي كان مخلصاً لهذا المبدأ وملتزماً بتداعياته في تاريخ الإسلام، أم أنّ مبدأ الحريّة هذه قد تعرض للاختراق وتمّ تجاوزه بل وانتهاكه في كثير من الأحيان؟

سوف أتطرق في هذا المجال إلى دائرتين في هذا الحقل الواسع، إحداهما بعض الفتوحات الإسلاميّة، وخاصّة في العصر الأموي، وربما بعده أيضاً، والدائرة الثانية هي دائرة الحريّات في داخل الاجتماع الإسلامي.
أمّا في الدائرة الأولى ـ أي الفتوحات ـ فإنّني أرى أنّ المرحلة التي شعر فيها السلطان أو ما يسمّى بالخليفة المسلم بزهو الانتصارات التي حققها، فإنها أنتجت لديه رغبة جامحة في توسيع دائرة الإمبراطورية الإسلاميّة.
فاتّجه إلى اجتراح شكل جديد من أشكال الفتوحات لم تكن محكومة بمبادئ الدعوة، بل كانت محكومة بهواجس النفوذ والسلطة والتوسّع، أي توسّع دائرة سلطته على بلاد وشعوب أخرى.
وهنا يمكن القول أنّ ما يدعى خلافة صار ملكاً عضوضاً كما تعبّر بعض الأحاديث النبويّة، وبعبارة أوضح صار طموحاً مماثلاً ومشابهاً لكل طموح آخر شهده التاريخ من خلال سلوك الأمم القوية التي تتجه دائماً إلى فرض سيطرتها وسلطانها على أوسع مساحة ممكنة من العالم الذي تعيش فيه.
ومن يراجع التاريخ يلمس هذه الحقيقة، ولو أنّ البعض يستشهد بقول مشهور لأحد المؤرخين الغربيّين وهو: «أنّ التاريخ لم يشهد فاتحاً أرحم من المسلمين».
إنّ هذه الرحمة النسبيّة لا تغيّر حقيقة الأمر في نظري واعتبار الدافع إليها دافعاً توسّعياً، وخصوصاً في الفتوحات التي تمّت ابتداءً من العصر الأموي.

الآن نأتي إلى الدائرة الثانية: وهي مسألة الحريّة داخل المجتمع الإسلامي، فإنّ قيام حضارة إسلاميّة جديدة على مستوى العالم في العصور الإسلاميّة السابقة هي أمر لا شكّ فيه، وأنّ إيجابيّات هذه الحضارة وتأثيرها على تطوّر التاريخ باتجاه إيجابي شمل حتى الغرب نفسه، فإنّ ذلك كلّه لا يمنع من القول: أنّ الاجتماع الإسلامي آنذاك لم يعرف مبادئ الحريّة الإسلاميّة وكان أقرب إلى نهج الاستبداد، وخاصّة في مستوى العلاقة بين السلطة والأمّة، أي شعوب الأمّة، وظلّت شرعيّة السلطة في هذا الاجتماع تستند إلى مبدأ القهر والغلبة، ويلاحظ الباحث والمؤرّخ كما في العصر العباسي مثلاً أنّ مأثرة ازدهار العلوم والمعارف بشتّى الأنواع كان ينقصها لون أساسي من ألوان المعرفة، لم يُتح له أن يتطوّر كما تطوّرت المعارف والعلوم الأخرى، واللون الذي أقصده هو ما نسميه بالعلوم السياسيّة، فكانت هذه العلوم شبه محظورة بل مقتصرة على ما يسمى يومها بدواوين الحكام والخلفاء.

اقرأ أيضاً: الاختلاف والاحترام لمقدّسات الآخرين وغير المتدينين

ومن وجهة نظري فإنّ سبب محاصرة هذه العلوم أنها لو اتّسعت لكانت ستؤدي بالضرورة إلى مفاهيم جديدة تتنافى والمبادئ التي يقوم عليها سلطان الخليفة أو الحاكم، خصوصاً وأنّ النص الديني الإسلامي يوفّر للعلماء والباحثين في علوم السياسة مجالاً واسعاً بتقريره ـ أي بتقرير القرآن نفسه ـ في آية الشورى أن يهتدي الباحثون إلى فكرة أنّ شرعيّة أي سلطة من الخليفة فنازلاً إنما تقوم على مبدأ الشورى الذي عرفه الغرب فيما بعد وسمّاه بالعقد الاجتماعي جان جاك روسو
Jean-Jacques Rousseau)) والذي يتضمن بالضرورة الالتزام بمبدأ الحريّة والديمقراطية في اختيار السلطة.

ولذا، فإنّني أرى أنّ الاجتماع الإسلامي لم يستفد كثيراً من مبادئ الحريّة التي أرساها الدين الإسلامي، بل تسربت إلى البنية الاجتماعية الإسلاميّة مظاهر الاستبداد والتحكم بين الأفراد والجماعات داخل الاجتماع الإسلامي، وكان أحد آثارها الفظيعة ـ في نظري ـ يتمثّل في القمع الذي يواجهه الفرد سواءً تجاه السلطة أو تجاه المجتمع نفسه، فإذا كان ثمّة بقية من الحريّة للاجتماع فإنّ الحريّة الفردية تكاد تكون ملغاة بصورة كاملة، لا تجاه السلطة فحسب، ولكن تجاه المجتمع وتقاليده، وعاداته.

ومن هنا في نظري تراجعت إمكانية الإبداع التي تشترط فيما تشترط مساحة كبيرة لحريّة الفرد تجاه المجتمع، فيغدو الفرد وكأنه مجرد رقم لا أكثر داخل اجتماع يجرّده من أيّ حقّ من حقوق الخروج على مفاهيم المجتمع ومقدّساته وعاداته وتقاليده، حتى لو كانت هذه العادات والتقاليد مسيئة ورافضة لمبدأ التطور والتغيير، الذي هو سنّة من سنن الحياة والكون، بل هي سنّة من السنن الأسمى للاجتماع البشري نفسه.

(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج)

السابق
الإعلامي والباحث «الإسرائيلي ادي كوهين»: هدايا بشار «لإسرائيل» لن تتوقف!
التالي
من هي المغنية التي ادعت أنها «المهدي المنتظر»؟