إنه زمن السباق الانتخابي الذي انطلق في طرابلس باتجاه ملءالمقعد النيابي الذي شغر بإبطال المجلس الدستوري لنيابة “ديما جمالي” التي اجتهد الرئيس سعد الحريري – عبر صوغه تحالفات واتفاقات ، وإجرائه مصالحات صدمت الرأي العام الطرابلسي، وشقّقت الصفوف أكثر مما رمّمتها – في سبيل تأمين الاحتضان السياسي لها ، من جانب أغلبية القيادات والقوى السياسية الطرابلسية ، وعلى رأسها منافسه الأبرز وخصمه اللدود في الانتخابات الماضية، الرئيس نجيب ميقاتي، وذلك في مسعى منه ، لإعادتها الى المجلس النيابي، في معركة هادئة وغير مكلفة مالياً ، يعتقد اصحابها انهم قادرون على حسم نتيجتها قبل حدوثها ، تحت شعار مستهلك وممجوج وبات مدعاةً للسخرية وفاقداً لأيّ مصداقية في صفوف الناس، هو “وحدة الصفّ السُنّي” في مواجهة المشروع السياسي لحزب الله ، الذي يتهدد أهل طرابلس الذين يتمّ التعاطي معهم للأسف ، إنطلاقاً من محدداتٍ طائفية : إنهم “سُنّة” يقطنون في “عاصمة السُنّة” . مع تجاهلٍ مقصود لواقعِ أن هذا التوصيف الذي التصق بالمدينة، قد اصبح مرادفاً لمعنى “كتلة بشرية من المسحوقين والمهمّشين” .
والغريب أن وجود هذا المشروع الخطير قد أصبح نعمةً أو مكسباً في زمن الإفلاس ، أو تجارة لا تكسد بضاعتها ابداً ، في زمن الانتخابات . إذ كان يكفي التذكير بمخاطره على المدينة المنهكة على كافة المستويات ، لتعبئة الجماهير واستنفارهم وتجنيدهم طائعين لتحقيق مصالح الزعيم المستهدف .
وبما انها معركة فرعية ، فهي لا تستوجب دفع أموال انتخابية طائلة، نتيجة حشد تأييد سياسي واسع لمرشَّحة السلطة ، بغرض قطع أمل أيّ مرشحٍ منافس بالفوز ، والإيحاء ان المعركة قد انتهت قبل ان تبدأ . ولكن رغم إتمام تركيب دواليب “المحدلة” من خصوم الأمس الذين مزقت مهاتراتهم وخلافاتهم على السلطة، جسدَ المدينة ، إلا انه ما زال هناك تحدٍ كبير يواجههم ، وهاجس وحيد يقلقهم ، وهو نسبة الاقتراع الشعبي التي تشير التوقعات الى أنها ستكون متدنية جداً . ما يعني ان تعبئة الشارع البارد وتسخينه بحاجة الى عناوين برّاقة تستنهضه . وهنا يأتي دور الشعارات الإنتخابية المُعلّبة والمستهلكة ومنتهية مدة الصلاحية، التي اعتاد اهل طرابلس سماعها في كل إنتخابات ؛ شعاراتٍ لا وظيفة حقيقية لها ، سوى دغدغة مشاعر الناس، وتجييش مخاوفهم عبر الضرب على الوتر الطائفي ، بغية صرف نظرهم عن واقعهم المهين ونكباتهم اليومية المستفحلة ، وإيهامهم بأن القضية الكبرى لا تكمن كما يتوهمون ، في الأزمات الاجتماعية التي تنهش المدينة وتستنزف ما تبقّى لها من إمكاناتٍ وموارد بشرية واقتصادية وتراثية ، بل تكمن في وجود عدو خارجي يتربص بهم ، ويريد الفتك بهم، ولذلك فهو يحيك لهم المكائد والمؤامرات في الغرف المظلمة ، تمهيداً للإجهاز عليهم . ولذلك فإن المطلوب منهم في هذه اللحظة المفصلية في حاضرهم ومستقبلهم ، هو ان يمتّنوا صفّهم الداخلي في وجه هذا العدو الغاشم، وان يضعوا بين قوسين ، بؤسهم ومأساتهم وإحباطهم وتهميشهم وضياع حقوقهم امام أعينهم ، لمصلحة قريةٍ صغيرة مجاورة يطمح نائبها في ان يكون رئيساً للجمهورية ، وان ينتخبوا هذا المرشح او ذاك ، هذه اللائحة او تلك ، كي يفوّتوا على هذا العدو اللئيم فرصة النيل منهم .
إقرأ أيضاً: من هم المرشحون للانتخابات الفرعية في طرابلس 2019؟
والواقع أنه بعد عدة إستحقاقاتٍ نيابية اجترّت نفس الشعارات والوعود التنموية والنهضوية والتوظيفية التي لم يتحقق منها أي شيء على الاطلاق ، اكتشف أهل طرابلس أن عدوهم الحقيقي المتربص بهم ، والذي يستحق المقاومة الفعلية ، ليس محوراً أو حزباً يتوحدون في كل استحقاق ، ليتغدّوا به قبل ان يتعشى بهم ، أو ليقطعوا الطريق على مؤامراته الدنيئة التي تهدف الى ابتلاعهم ، بل هو عدو سكن بين ظهرانيهم منذ عقود ، عدو فتك بهم وأذلّهم واستباحهم وأهان كراماتهم بالفعل ، إنه الفقر والحرمان الذي وصلت نسبته الى 80% في بعض الأحياء . اكتشفوا ان الشعارات الانتخابية الزائفة القائمة على التهويل وشدّ العصب ، لم تطعمهم خبزاً ، ولم تفتح لهم مصنعاً ، ولم تسترد لهم حقاً ، ولم توجد لهم فرصة عمل ، بل كل ما فعلته ، هي انها رمت أبناءهم في السجون ، واعادت مطلقيها الى مواقعهم مع لقب ” مرجعية” و “سعادة” و ” معالي” ، وأعطتهم رخصة شرعية للتمادي في قهر المدينة .
أجل لقد سمعوا الكثير من الجعجعة عن تنميةٍ ونهوض ومشاريع قادمة ، ولكنهم لم يروا طحيناً ، لأن نار الخطابات الانتخابية الحماسية كانت تنطفىء بعد لحظات من إعلان نتائج الصناديق الانتخابية . والدليل على هذا المنهجية المتّبعة في العمل السياسي والانتخابي ، معرفتهم بعد سنوات من الإنتظار ، أنّ المنطقه الاقتصادية الموعودة ، هي مجرد كومةٍ من التراب محاطة بجبلين من النفايات ومسلخ ومحطةٍ لتكرير المياه الآسنة ، ما يجعل تشغيلها ضرباً من الوهم ؛ وأنّ معرض رشيد كرامي الدولي الخاوي على منشآت آيلة للسقوط ، قد سُلبت حصريتُه دون أدنى مقاومة ؛ وانّ الشركات الصينية التي كان من المفترض ان تنعش اقتصاد المدينة ، قد هاجرت في غفلة من رقدة ساسة طرابلس ، كي تستوطن في منطقة البقاع حيث تمّ تأمين ظروف مناسِبة لعملها ؛ وأنّ المشاريع القليلة التي تُرصد للمدينة ، لا تُنفذ وتظل حبراً على ورق ، وهي إن نُفذّت بعد مرورها بقنوات المحاصصات والسمسرات ، فهي تُنفذ بأسوأ المعايير والشروط ، ولا من حسيب ولا من رقيب .
الرأي العام خارج طرابلس، يعتقد انّ موجة الإعتراض العارمة على إعادة إنتخاب “ديما جمالي” ، هي بسبب سوء أدائها وعفويتها وكثرة اخطائها وزلاتها وضعف إمكاناتها التواصلية واللغوية وإفتقادها أدوات العمل السياسي ، ولكن الحقيقة ليست كذلك ، لأن “جمالي” ليست أسوأ من غيرها من النواب الذين سرقوا اصوات الناس ، وغابوا عن السمع والبصر بعد فوزهم ، رغم ان صورهم ما زالت معلقة وتشوّه جدران المدينة واعمدتها . وكل مَن يسأل ماذا فعلت “جمالي” على مدى تسعة أشهر من نيابتها ، يعرف في قرارة نفسه ، أنّ نوّاب المدينة وقياداتها وشخصياتها السياسية لم يفعلوا شيئاً على مدى تسع سنين ، وهم لن يفعلوا شيئاً بعد تسعين سنة . ما يعني أن “جمالي” التي كُتب عليها ان تخوض معركتين إنتخابيتين في أقلّ من سنة واحدة ، تتلقى الاتهامات والصفعات وسهام الإنتقادات بالنيابة عن ساسة المدينة مجتمعين . فهي ليست مجرد مرشّحة لملء مقعد نيابي ، إنها تجسيد لكل الفشل والعجز وسياسة التطنيش التي مارسها التيار الازرق والبنفسجي وكل الألوان السياسيه الأخرى تجاه طرابلس .
النقمة على مرشّحة السلطة، هي نقمة عليهم . رجمها هو رجم لهم . الإعتراض على إعادة ترشيحها ، هو إعتراض على تخاذلهم وتقاعسهم . إنها مجرد “واجهة” هشّة يستسهل البعض قذفها بالحجارة ، أو مجرد “صندوق بريد” يرسل من خلاله أبناء المدينة الغاضبون الذين يشعرون بالنفي والإغتراب داخل وطنهم ، رسالةً الى القيمين على المدينة ورؤوساء الكتل النيابية فيها ، مفادها أننا قرفنا من فشلكم وعجزكم وشعاراتكم وبازاراتكم السياسية وتجارتكم بهواجسنا وضعفنا ؛ وسئمنا من تعاملكم معنا على أننا مجرد ارقام في صناديق الإقتراع . إنّ كذبة خصوماتكم الظرفية وتحالفاتكم البراغماتية ووحدة صفّكم المكيافيللية ، ما عادت تنطلي علينا . فأنتم تحددون حجم ضراوة معارككم الإنتخابية أو سلميّتها ، بالإستناد الى الوضع الراهن لمصالحكم الخاصة : هل هي مهددة أو محفوظة . وهكذا ، تارةً تكون المعركة مصيريةً تفصل بين الحق والباطل ، الخير والشرّ ، وتهدف الى تكريس “مرجعية” استولى عليها الآخرون الآتون من خارج المدينة ، وعلى نتائجها يتحدد مستقبل المدينة : عماراً أو خراباً ، نهوضاً أو ركوداً ، إستقلالاً او استتباعاً . وطوراً تكون المعركة هامشيةً ولا يؤثر فيها ” نائب بالزائد أو نائب بالناقص” ، ولا تستأهل الخصومة والشرذمة وشقّ الصف الواحد ، وبالتالي ما على “الصغار” سوى الإحتكام الى “الوعي” بالأوضاع الخطيرة والقبول بالتسويات والاتفاقات الفوقية التي أجراها “الكبار” دون إستشارتهم أو الرجوع اليهم .
إقرأ أيضاً: ذات الرداء الأحمر.. مرشحة لبنان عن «طرابلس الغرب»!
مع بدء العدّ العكسي لموعد حصول المعركة الانتخابية في طرابلس ، فإن أهل المدينة يقولون لكل القوى السياسية المتحالفة : إختلفوا واتفقوا ، تخاصموا وتصالحوا ، شقّوا الصفوف أو وحِّدوها ، أعلنوها معركةً أو هدنةً، إفعلوا ما شئتم لتأبيد مواقعكم وتكريس مرجعياتكم على مدينةٍ أنتم لا تمثلون ، بكل عدٌتكم وعتادكم وأموالكم ونفوذكم وإعلامكم وكراتين إعاشاتكم ، أكثر من 30 في المئة من أبنائها ، ولكن إياكم ان تحاولوا استغباءنا أو استحمارنا أو التهويل علينا بوجود عدو خارجي طامع فينا أو هاجم علينا ، لأن جرائمكم المرتكبة بحق المدينة، قد قطعت الطريق أمام أي عدو طامع فينا . فأيّ عدو غبي ذلك الذي يطمع بمدينةٍ تنازع وتُحتضر وتقاوم الفقر والتهميش باللحم الحي ؟! وأيّ عدو خارجي غبي ذلك الذي يضع الخطط ويحيك المؤامرات لإسقاط مدينة قد سقطت بالفعل ، بأيدي أعدائها المحليين الذين يهتمون دوماً بنسبة الإقتراع ، ولكنهم لم يهتموا يوماً بنسبة الفقر والحرمان ؟!
كيف استعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحراراً ؟! الجواب : حوّلناهم الى أرقام في صناديق الإقتراع، وبنينا عليها أمجاداً باطلة وزعاماتٍ ورقيّة ومرجعياتٍ صنميّة من أبرز صفاتها أنها لا ترى ، لا تسمع، ولا تشعر بوجع وقهر مَن صنعها .