اللبناني وإعلان كارلوس غصن

وأنت عالق في الزحمة على طرق لبنان تطل عليك، من خلال لوحات الإعلان الإلكترونية المثبتة ببشاعة في غالبية المناطق، صورة ضخمة لكارلوس غصن مكتوب في أسفلها، باللغة الإنكليزية، ما ترجمته: “نحن جميعنا أحرار”.

هذا الإعلان يهدف، بطبيعة الحال، إلى إعادة الاعتبار لغصن، الذي كان قد خرج (قبل إعادة توقيفه منتصف هذا الأسبوع) بشروط من التوقيف الاحتياطي في اليابان، بعدما وجهت إليه النيابة العامة تهم التهرب الضريبي، خلال ترأسه لمجلس إدارة شركة “نيسان” للسيارات.

إلا أن هذا الإعلان ترك انطباعا سيئا لديّ، وأوحى لي بالأسباب التي تحول دون حل أي مشكلة تطرأ على اليوميات اللبنانية.

فهذا الإعلان ينمّ عن استسهال غير سوي في استعمال المصطلحات. فكارلوس غصن، بغض النظر عن تورطه أو براءته، هو شخص يمثّل نفسه بما نسب إليه من تهم جنائية، وتاليا فهو يستحيل، بأي ظرف من الظروف، أن يكون “نحن جميعنا”، لأنه حتى يكون “نحن جميعنا” يفترض أن يكون، بأضعف الإيمان، معتقلا سياسيا أو أسيرا حربيا، أو سجين رأي.

ولا تتوافر في غصن هذه الشروط حتى يستحق أن يكون “نحن جميعنا”، فحيازته على الجنسية اللبنانية لا تخوّله أن يختصر جميع اللبنانيين إذا ما لوحق في ملفات تتصل بمهامه الشخصية، في شركات يابانية وفرنسية.

وتكبر الإشكالية، عندما أصل إلى مصطلح “أحرار”، فـ”نحن جميعنا أحرار”، كما كتب الإعلان، لأن كارلوس غصن خرج من زنزانته.

ورأيت أن حريتنا “المعلن عنها” تكاد تكون كما “حرية” كارلوس غصن لا أكثر ولا أقل، أي حرية مقيّدة بشروط نافية للحرية، فالرجل خرج من السجن الصغير إلى السجن الكبير، حيث يُمنع عليه أن يغادر البلاد، وأن يشارك في الاجتماعات، وأن يلتقي أيا كان إلا تحت أجهزة المراقبة، وأن يبقى جاهزا للعودة إلى السجن الصغير.

اقرأ أيضاً: متلازمة اسمها «أنا الشيوعي الأخير»

أهذه هي الحرية التي يتباهى بها الإعلان ويدمج بينها وبين التي كانت ممنوحة لغصن؟

بمقارنة واقع الحال، لا تبدو الأمور مختلفة، فاللبناني يشعر أنه تحت الضغط في كل ما يُقدم عليه، فكلامه ـ حيث قاله أو كتبه ـ مراقب، وماله ـ إذا توافر ـ في خطر، ودولته ـ في ظلال دويلات السلاح والطوائف ـ مغلوب على أمرها، وسيادته ـ في ظل أكذوبة النأي بالنفس ـ متآكلة من الداخل كما من الخارج.

المشكلة أن الإعلان يتبرّع في توصيف هذا الواقع المر بمصطلح الحرية، وكأنّ الترويج هو لهذا التعديل الخطر لمفهوم الحرية.

كارلوس غصن لم يكن حرّا، في الفترة التي فصلت بين خروجه من الزنزانة وبين عودته إليها، واللبناني، في ما يعيشه يوميا من أزمات سيادية وكيانية ورقابية ومالية واقتصادية واجتماعية وسياسية، ليس حرّا أبدا.

وعلى قاعدة هذا الإعلان الترويجي لكارلوس غصن، حيث خطأ الدمج بين شخص وشعب وحيث خطيئة وصف التقييد بالحرية، “تتأبّد” مشكلات بلد، مثل لبنان.

فمكافحة الفساد ليست سوى استهداف لشخص أو مجموعة مغضوب عليها، وليست آلية متفق عليها قانونا، من أجل حسن إدارة موارد الدولة المتأتية من القطاع الخاص والعام على السواء.

والمقاومة ليست قوة شعبية تعمل ميدانيا على تحرير ما احتل من أرض الوطن، بل هي قوة عسكرية مستقلة لها أجندة خاصة ويمكن الاستعانة بها في سوريا واليمن والعراق وفنزويلا، وحيث ارتأت المصلحة الإيرانية.

والطوائف ليست إطارا لإرشاد المؤمنين على اتباع الصراط المستقيم في التعاطي مع الله، بل هي قوى سياسية لها حضورها في كل الميادين السياسية والقضائية والعسكرية.

والمصارف ليست قطاعا للمساهمة في تحريك عجلة الاقتصاد وتشجيع الاستثمار، بل هي مجرد إطار من أجل توفير الأموال التي تحتاجها الدولة لتوفير ما يعينها على صرف الرواتب وشراء ما هو ملح من الحاجيات.

وقطاع الاتصالات ليس لتوفير التواصل بين الناس وللحاق بركب التطور العالمي، بل هو مجال لسحب ما أمكن من الأموال من أجل توفير مداخيل للدولة وللقطاع “الخاص جدا”.

وزحمة السير الخانقة على امتداد النهار، ليست أزمة قاتلة للوقت المنتج، بل هي حالة طبيعية يفترض العيش معها.

والبيئة الملوّثة على مختلف المستويات، ليست كارثة إنسانية لها انعكاسات خطرة على الصحة كما على المال الخاص والعام، ولا بد من إعلان حالة طوارئ لإيجاد الحلول اللازمة لها، بل هي “مصيبة من السماء” في بلد كانت قد منحته السماء كل مقوّمات الجمال.

والطاقم السياسي ليس جزءا لا يتجزأ من الناس، بل هو مكوّن من “أنصاف آلهة” يمنع المساس به، تحت طائلة “التدنيس”.

والحبل على الجرار…

إن الإعلان الترويجي لكارلوس غصن في لبنان، على الرغم من أنه مبني على خطأ دمج الشخص بالشعب وعلى خطيئة توصيف التقييد بالحرية، إلا أنه يبقى مرآة تعكس تمادي الكوارث في لبنان.

السابق
أمين المقاومة والشيطان الأكبر
التالي
سرقوا حتى أوراق الشجر في غفلة منّا!