«الحروب الصليبية»: مظلومية مستحدثة ذات عواقب

الحروب الصليبية

رست السردية العربية، القومية أولا ثم الإسلامية، على اعتبار ضمني لمواجهة تكاد أن تكون دائمة بين “الشرق” و”الغرب”، حيث الغرب هو المعتدي، المستعمِر والمحتل والساعي إلى استنزاف الثروات وتضليل الشرقيين لغرض التمكن من استغلالهم، والشرق هو المعتدى عليه، المقاوم والمدافع عن حقوقه بوجه الهجمة الساعية إلى إخضاعه، والتي تشترك فيها قوى الاستعمار أو الاستكبار من الخارج، والرجعية العميلة التابعة لها من الداخل، مع تخصيص مكانة فريدة للصهيونية، بصفتها حالة قصوى من التوجه الغربي لا تقتصر على الاستفادة من موارد الشرق، بل تجنح إلى الاستيلاء الصريح على أرضه وطرد أهله منها.

وتكاد الحملات الصليبية، والتي استهدفت المشرق بين القرنين الحادي عشر والثالث عشر، والتي أقامت فيه الإمارات المسيحية أن تكون الدليل الأوضح على صواب هذه السردية لدى أصحابها. بل، وبعد تجاوز التكلف في الخطاب، هي “حرب صليبية” متواصلة وإن تبدّل الغرب في خطابه ليستعيض عن المسيحية بالحداثية والعلمانية والتقدم وما شابه.

الحديث عن “الحروب الصليبية” يستدعي مظلومية عالية في الإطار الثقافي العربي، ويثير في المقابل، لدى الأوساط الغربية ذات المنحى التقدمي أو العالمي الشعور بالذنب والذي عليه تبنى العديد من المواقف التنازلية من جانب هذه الأوساط، لا تجاه المجتمعات الشرقية وحسب، بل كذلك تجاه بعض الأنظمة الحاكمة فيها وإن كانت سلطوية أو قمعية.

ولا تفوّت هذه الأنظمة، كما معظم التوجهات الفكرية والسياسية في المحيط العربي استدعاء هذا الشعور الغربي بالذنب كداعم للشعور بالمظلومية ودليل إضافي على صوابها. والجديد غربيا هو التدوير الحاصل لسردية الحرب الصليبية من قبل التوجهات الانطوائية الرافضة للنزوح الوافد إلى الدول الغربية، لتصبح فعل مقاومة إزاء الغزوات السكانية (الإسلامية) الهادفة إلى فتوحات أخرى بأساليب جديدة تستبدل الغرب قوما وشرائع. وبدورها، تعتنق الحركات الجهادية العابرة للدول هذه الرؤية فتتحدث بدورها عن “جهاد دفع” بوجه “الصليبية” و”جهاد طلب” يهدف إلى رفع راية الإسلام السوداء في بلاد الكفر كافة.

وقد يبرز الاختلاف في الإطار العربي حول مدى الشمول المنسوب لسردية الحرب الصليبية الدائمة، بل قد تُسمع الأصوات التي تشير إلى العبث والوهم والخرافة المستفحلة في الصيغ الأكثر تشددا، في الشرق والغرب معا. إلا أن ما يقارب الإجماع يبقى مستقرا بشأن صلب المظلومية الناتجة عن الحروب الصليبية نفسها.

اقرأ أيضاً: دمشق ترفض تثبيت حق لبنان في ملكية مزارع شبعا

غير أنه من المفيد إعادة النظر بهذه القناعة، لمقتضى الوضوح التاريخي أولا، ولتفكيك استعمالاتها السياسية كذلك. ذلك أنه رغم البروز المتواصل لـ “الحروب الصليبية” كأساس للمظلومية، فإن السجل الوقائعي يتناقض مع هذه المكانة.

ليس أن الحروب الصليبية على مدى قرنين قبل زهاء ثمانمئة عام لم تكن فظيعة، إذ هي انضوت على المجازر والتشريد، وشهدت قيام الدول والإمارات واندثارها، وأقحمت في رحاها الشعوب والمجتمعات، بل إن بعض أوجه الوحشية فيها قد جرى التغاضي عنه من باب التهذيب والمصلحة، كما في اصطياد الغربيين للمشرقيين طمعا في أكل لحومهم، إذ وجدوا أنفسهم في بلاد جرداء دون المؤونة الكافية، وفق ما ذكرته مصادرهم قبل أن يقرّر مؤرخيهم في القرن التاسع عشر اقتطاع هذه الأخبار لتناقضها مع الصورة الذاتية الغربية بشأن الرقي والحضارة.

ولكن الحروب الصليبية، على دمويتها، لم تكن فريدة. بل إن أخباريي الدول الإسلامية القائمة في المشرق آنئذ، وإن جاؤوا على ذكر غزوات “الفرنج” وقبائحها، كانوا أكثر انشغالا بالخطر الوجودي القادم من الشرق، أي المغول، والذي كان قد فتك للتوّ، وبأشنع الأشكال، بالعديد من الحواضر والسلطنات الإسلامية من بلاد ما وراء النهر وصولا إلى تخوم بغداد، إذ كان يقبع مهددا الخلافة وما تمثّله من نظام عالمي إسلامي بالتدمير والإفناء.

وقد تمكنت المنظومة السياسية العالمية الإسلامية، والحافلة يومها بالتناقض والتنافس الداخليين، من اجتياز تلك الحقبة الأشد خطورة عند نهاية القرن الثالث عشر، فامتصت المد المغولي الجارف وأعادت تجيير بعضه لتشكيل هيئة جديدة من السلطنات المتواجهة والمتوازنة، وفي الآن نفسه أنهت المغامرة “الفرنجية” العرضية في بلاد الشام. بل يمكن الإشارة إلى جهد واضح من جانب الدولة السلطانية (المملوكية) في هذه البلاد إلى الانتهاء من الحالة الأكثر انسيابية والتي كانت قائمة في القرون السابقة، من خلال فرض مركزية أكثر قسوة وشدة، ومن خلال القيام بحملات إخضاع للجيوب والتخوم والتي كانت خارج النفوذ المباشر للدولة.

ورغم التشدد الخطابي الذي صاحب هذه الخطوات، فإنه يصعب تبيّن وعي خاص بمواجهة بين “شرق” و”غرب”. فالآخر المهزوم ليس “الغرب”، بل “النصارى”، وإن كان الجهد الأول منصبا على القضاء على الخارجين عن السلطان من “أهل القبلة”.

والتمييز الضمني الحاصل هنا بين “الغرب” و”النصارى” على أهمية، لأن الحضور المسيحي في المشرق، أي في بلاد الشام وفق المصطلح الإسلامي، وصولا إلى الحملات الصليبية بل إلى ما بعدها، لم يكن هامشيا البتة، بل كان بارزا إلى حد تنتفي معه إمكانية التوصيف الموضوعي الأحادي لحالة البلاد إلى ذاك الحد.

هل هي “بلاد الشام”، أرض رباط إسلامية فيها أهل ذمة من النصارى وعند أطرافها الثغور لسجال النصارى المحاربين دفعا وطلبا؟ أم هل هي “سوريا”، الولاية المسيحية، والتي وإن فتحها المسلمون بقيت على مسيحيتها صابرة بانتظار الخلاص؟ وحيث أن الحصيلة، بعد انقضاء القرون، هي استقرار الغلبة الإسلامية، فإن السائد في الخطاب الفكري هو افتراض تحقق هذه الغلبة منذ صدر الإسلام. غير أن هذا الافتراض هو اختزال مجحف للتاريخ الوقائعي، سواء من حيث التركيبة السكانية، مع انتشار مسيحي واسع النطاق في المدن والأرياف، أو من حيث المشروع السياسي، مع استمرار السعي البيزنطي لاسترجاع سوريا على مدى القرون الأولى بعد الفتح، والنجاح بإعادة بعض النواحي والبلاد للحكم المسيحي وإن لوهلة في بعض الحالات.

فالحملات الصليبية، وفق هذه القراءة، ليست حدثا خارجيا طارئا، بل استجابة من الغرب المسيحي لطلب من الشرق المسيحي، الحر منه في بقايا بيزنطة والمقيّد من رعايا الدول الإسلامية، لتحرير الأرض المقدسة، بما فيها كنيسة القيامة والتي جعل منها الفتح الإسلامي “قمامة” وفق المصطلح الشائع، وإن جاء هذا العون في أدائه وفي مخلفاته مخيبا للآمال، بل معاكسا في نتائجه.

لم يتمكن “الإفرنج” في نهاية المطاف من اعتراض واقع التآكل التدريجي للحضور المسيحي في المشرق، وجاء اندحارهم ليفسح المجال لتبديل إقدامي للبنية السكانية لتنسجم مع التوجهات القطعية الناشئة والتي اعتبرت التعدد مصدرا للضعف. يمكن إدراج الحملات القمعية والتي أقدمت عليها دولة المماليك في الشام ضمن هذا السياق، كما يمكن فهم الشدة التي دعا إليها ابن تيمية ضمنه كذلك. والحصيلة كانت توطيدا للسلطة الإسلامية على بلاد الشام بشكل غير مسبوق.

الحروب الصليبية، من وجهة نظر محلية، لم تكن ذات أولوية قصوى لا في زمنها، لعظمة الخطر المغولي، ولا في ما تلاها، إذ هي انتهت بخسارة فادحة لـ “النصارى”. والدليل على صحة هذا التوصيف هو في تطبيع ذكرى هذه المرحلة في معظم الموروث الثقافي واندثارها، على المستويين العلمائي والشعبي.

لم تعُد “الحروب الصليبية” إلى الوعي الثقافي العربي إلا في القرن التاسع عشر ومن باب أهميتها للفكر الغربي عامة، والفرنسي خاصة، كسابقة في إطار الدور الحضاري المفترض للغرب ضمن التصوير الإيجابي للمشروع الاستعماري. وجاءت أوائل الكتب العربية في هذا الشأن لتضع “حرب الصليب” أو “الحرب المقدسة” في إطار نصرة الملهوف وتحقيق العدالة، لا في سياق العداء للإسلام. ثم كان التدرج في إعادة الاعتبار، في الغرب أولا حيث تصاعد النقد للاستعمار بالإشارة إلى مضمونه الاستغلالي، ثم في الشرق الساعي إلى محاكاة القومية الغربية، والذي وجد في “الحروب الصليبية” سابقة لاتهام الدول الاستعمارية باستنساخها في احتلالاتها وانتدابتها، وللطعن بالصهيونية للتمثل بها في استيطانها.

أي إن المظلومية المرتبطة بالحروب الصليبية في المحيط العربي اليوم ليست مبنية على توارد الذكرى حول ما اقترفه الصليبيون من أذى، بل على التصوير العقائدي القومي ثم الإسلامي والذي يماثل بين المختلفات، فيضيّع السياق ويسطّح التاريخ، فيما يستفيد من المراجعات التاريخية في الغرب وما يصاحبها من الشعور بالذنب.

كان يمكن إهمال هذا التوظيف لحقبة تاريخية غابرة واعتباره أداة سجالية وحسب لولا أنه اليوم يسخّر لجولة أخرى من التصفية الداخلية في هذا المشرق تستهدف المجتمعات المسيحية. فمع إعلاء شأن “الحروب الصليبية” لتنتقل من موقع المستجدات العرضية لتصبح حدثا مفصليا في تاريخ المنطقة، ثم التقرير الخاطئ بأنها حرب اعتداء صرف وأنها قد أسست لمظلومية فريدة تستحق الانتخاب من تاريخ المظالم الطويل، ومن بعده إلصاق صفة “الصليبيين” بكل ما يمت إلى المسيحية بصلة، كل هذا يشكل التمهيد، وبشكل صريح وعلني، لاعتبار المسيحيين جسم غريب في المنطقة، والسعي إلى اجتثاثهم منها.

ومن هنا الحاجة إلى إعادة اعتبار جدية. الحروب الصليبية فصل وحسب من التاريخ الطويل، لا تختلف عن سائر فصوله لا سلبا ولا إيجابا، ومن هنا وجوب تسمية استدعائها بما هو على أنه مسعى لتعميق العداء تحت ستار المظلومية وتوظيف عقائدي وحسب في الحرب المستمرة على التعددية.

السابق
التسنيد في مواجهة المجهول بفعل «التشريع» الوزاري
التالي
«ما فيي» وجبة عاطفية مجبولة بالسذاجة والرسائل