مسلك علماء جبل عامل ماضياً وحاضراً

السيد محمد حسن الامين
خلال أكثر من نصف قرن عاصرتم الكثير من علماء الدين.. كيف تقيّمون أداء علمائنا القدامى، وكيف ترون واقع الجسم العلمائي في وقتنا الراهن؟

يجيب سماحة العلاّمة المفكّر السيد محمد حسن الامين: أتيح لي ـ ولو لمدّة قصير، وقد تكون غير كافية تماماً ـ لتقييم الجيل الأسبق من العلماء، ولكن بوصفي ابن عائلة علميّة، أعرف الكثير عن المناخ والسلوك العام لهؤلاء العلماء، الذين لم يبلغ عددهم حتى تاريخ عودتي من النجف أكثر من خمسين أو ستين عالم دين، وبعض هؤلاء ليسوا من الجيل القديم كلّهم؛ إلا أنني أقيّم تقييماً عالياً طابع السلوك العلمي والديني والاجتماعي لهذه الفئة من العلماء، والتي تميّزت بالورع والإجتهاد، وأكثر من ذلك، التي لم تُقصّر في مواجهة الأحداث والتحديات الصعبة، التي وقعت على العالم الديني، سواء من الأتراك أو الفرنسيين، أو حتى من السلطات المحليّة.
وأودّ أن أذكر مِثالاً قد يغني عن صفحات طويلة من الحديث عن سلوك هؤلاء العلماء؛ ففي أواخر القرن التاسع عشر، وربما في عهد المرحوم كامل الأسعد (الجد)، تعرّض أحد الفلاحين في تلك الأيّام لظلم واضح من أزلام ذلك الزعيم؛ فلجأ إلى العالِم المعروف في وقته السيّد نجيب فضل الله، وهو عالم كبير، فكتب السيّد رسالة قاسية اللهجة إلى كامل الأسعد، عنونها ب(طاغية البلاد وجرثومة الفساد)، وتضمّنت قسوة واضحة تجاه هذا الزعيم، وإنذار له بوجوب إنصاف الرجل المظلوم..

اقرأ أيضاً: الحوزة الدينية وجدل العلاقة بالسلطة

طبيعي أن يغضب الزعيم، ولكن ماذا يصنع مع عالم بحجم السيّد نجيب فضل الله..! ففكّر ـ كما يفعل السياسيون ـ أن يستعين عليه بعالم آخر يوازيه علماً وتقوىً، وربما يتفوق عليه في موقعه النافذ في أوساط العلماء العامليين، وهو العالِم السيّد علي محمود الأمين، وكان الأسعد على صلة طيبة بالسيّد علي محمود الأمين؛ فجاء من موقعه في بلدة الطيبة، حيث كان مقر حكمه وسكنه، واتجه إلى بلدة شقراء، ووفق الدبلوماسية المعروف بها، نزع حذاءه قبل الدخول إلى دار السيّد علي، ودخل إلى ديوانه، وقبّل يده، ثمّ توجّه كامل للسيّد قائلاً: يا سيّدي ما رأيك بي، وبخدماتي ودوري الذي أقوم به؟ فكان جواب السيّد أن امتدحه بطريقة لا مبالغة فيها، ودعا له بالتوفيق، فمدّ يده إلى جيبه وتناول له الرسالة المرسلة له من السيّد نجيب فضل الله؛ بقصد إثارة استنكاره، مما يمهّد للزعيم أن يؤذي السيّد نجيب تحت غطاء شرعية السيّد علي محمود الأمين..
فما كان من السيّد علي محمود إلا أن قطّب حاجبيه، وأدار وجهه عن كامل الأسعد، فقال كامل : ما رأيك يا سيدي بهذا؟ أجابه: إذا كان هذا رأي السيّد نجيب فضل الله بك فنحن مع رأي هذا السيّد، فقال له: ماذا أصنع؟ أجابه: لكي نرضى منك عليك أن تذهب من هنا (شقراء) إلى عيناثا، معتذراً ومتسامحاً وطالباً الغفران من السيّد، وتنفيذ أوامره بشأن القضية التي ارتكبها أتباعك. فما كان من كامل الأسعد إلا أن قام بذلك فعلاً، فذهب إلى السيّد نجيب، وطلب منه العفو والمسامحة، وطلب من أنصاره الإنصاف.
هذه القصّة يرويها الذين زامنوا وعاشوا تلك الفترة، وقد أدركتهم، وهي ذات دلالة عميقة على النهج في سلوك علماء الدين؛ حتى عندما يكون هناك حساسيّة بين العلماء، طبعاً كانت شخصيات هؤلاء العلماء متفاوتة، ولكن جميعهم يتصفون بالزهد والورع والقيام بواجبات الخدمة الإجتماعية، ورعاية الأيتام والفقراء، وبعضهم كان يمارس التدريس لجيل كبير لجبل عامل.
إنّ مدرسة شقراء في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين وصل عدد طلابها إلى أربعمائة طالب.. بعض هؤلاء الطلاب أصبحوا علماء، ومن المتفقهين والأدباء والشعراء، بمعنى أن هذه المدرسة كانت تنشر الثقافة في ذلك الزمن الصعب.

اقرأ أيضاً: إصلاح المناهج في حوزة النجف ضرورة لبقائها واستمرارها

فإذا انتقلنا إلى المرحلة الراهنة، ابتداءً من السبعينات والثمانينات إلى يومنا هذا؛ نجد أن هذا الإقبال الكبير على التلبس بزي رجل الدين، سواء أكان بعضهم يستحق ذلك أو لا يستحق، ووجدنا أنّه لأول مرّة يلتقي رجال دين لا يعرف بعضهم بعضاً! بينما كان الجيل الذي تحدثنا عنه على تواصل وتعارف كامل.
العصر الذي نعيش فيه يختلف طبعاً عن العصور السابقة، ولكن الذي لا يمكن غضّ النظر عنه هو أنّ الكثير من رجال الدين أباحوا لأنفسهم الإنتماءات السياسيّة المختلفة والمتعددة، والمتناقضة أحياناً، وهذا من شأنه أن ينال ـ لا شكّ ـ من الصورة المثاليّة لصفة الورع التي هي أبرز صفات علماء الدين في ذلك الزمن.
ولكنني لا أريد أن أظلم الجيل الجديد فأزعم أنه لا يوجد لدى البعض مظهراً واضحاً من التطوّر الفكري والعلمي والتوسّع في المعرفة، وإن كانوا مع الأسف هم القلّة.

(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج العاملي)

السابق
ناشرة إعلان «خادمة للبيع» تعتذر… وتتعهد!
التالي
نجمة إسرائيلية تدافع عن حقوق العرب… ونتانياهو يردّ