سوريا، قيصر يحاصره قيصر

مصطفى فحص

استطاع قيصر روسيا الجديد الرئيس فلاديمير بوتين أن يكسب الحرب، لكن حتى الآن لم يحقق النصر، والنصر في معضلته السورية هو الانتقال الآمن من مرحلة الحرب إلى مرحلة السِلم. الانتقال إلى السلم يحتاج إلى تسوية تاريخية، لا تملك موسكو الرؤية السياسية والأخلاقية لتحقيقها، نتيجة وقوع جنرالاتها أسرى عقدة المنتصر الذي لا يقدم تنازلات.

لكن مقتلة القيصر المستمرة، منذ أن حققت آلة الحرب الروسية أهدافها الميدانية فقط، تختصر بأن سوريا الروسية عالقة في حالة “لا حرب ولا سلم”. والمراوحة بين الحالتين باتت سببا في رفع كلفة التورط الروسي في المستنقع السوري وفي تزايد القلق من تداعيات الاضطرار إلى بقاء طويل الأمد لا تتحمله روسيا اقتصاديا أو اجتماعيا. وهو قلق يعيد إلى أذهان الروس شبح الحرب الأفغانية التي كانت أحد العوامل التي ساعدت على تفكك الاتحاد السوفياتي، خصوصا مع ارتفاع الأصوات الداخلية التي تحذر الكرملين من تكرار المأساة الأفغانية في سوريا والخوف من أن يحول هذا التدخل، إضافة إلى الانخراط الكثيف في منطقة الشرق الأوسط إلى أحد عوامل تفكيك الاتحاد الروسي.

الانتقال إلى السلم يحتاج إلى تسوية تاريخية، لا تملك موسكو الرؤية السياسية والأخلاقية لتحقيقها​
لذلك، تنشط الدبلوماسية الروسية ومعها صناع القرار في الكرملين من أجل تحقيق تسوية سريعة مبنية على واقع الأمر الميداني الذي تفترض موسكو أنه يعطيها الأحقية في فرض الشروط والتسوية التي تراها مناسبة. وينبع سبب الرغبة الروسية في تسريع إنجاز التسوية في أقرب وقت ممكن من الخوف من تغيير يطال أوضاع الحلفاء الإقليميين أو في الشروط الأميركية.

بعد سنة تقريبا على بدء الانخراط الروسي المباشر في الحرب على ثورة الشعب السوري، وقرارها الاستخدام المفرط للقوة لكي تجبر فصائل الجيش الحر على الجلوس على طاولة المفاوضات، انعقدت هذه الطاولة لأول مرة بين ممثلين عن الفصائل السورية وضباط كبار من الاستخبارات العسكرية الروسية في تركيا في شهر تشرين الثاني/نوفمبر عام 2016.

في جلسة التفاوض الأولى كانت الرؤية الروسية واضحة في عقد تسوية مع الفصائل المسلحة بعد هزيمتها وإخضاع مناطقها وفرض القبول بتسويات مع النظام، باعتبار أن الفصائل المسلحة في الشمال والشمال الشرقي تتبع لمرجعية إقليمية واحدة بعكس الجبهة الجنوبية المستقرة والتي تخضع لحسابات الأمن القومي الإسرائيلي الذي يعتبر أولوية روسية.

لم يغب عن بال الكرملين أن العمليات العسكرية تحتاج إلى إطار سياسي يشكل البديل عن العملية السياسية. فعملت موسكو حينها على عزل المعارضة السياسية وتفريغ مؤتمر جنيف من محتواه، ولتحقيق ذلك أطلقت عملية أستانة ومن بعدها لقاء سوتشي ليكونا بديلا عن الدور الأممي، الذي تراجع دوره لصالح لقاءات ثلاثية في موسكو وأنقرة حاولت الالتفاف على المعارضة السورية الضعيفة التي عانت الإهمال العربي والأوروبي بعد تخلي واشنطن عن تعهداتها.

تركت القضية بعهدة المبعوث الدولي السابق ستيفان دي ميستورا الذي تماهى مع مواقف موسكو السياسية، وبرز ذلك في تشكيل اللجنة الدستورية التي حاول دي ميستورا أن يُطَعِمها بوجوه مدنية تتقاطع مع رواية النظام حول الأزمة ومع معارضة الداخل التي أبقت مطالبها تحت سقف موسكو التي حملت على عاتقها إعادة تأهيل الأسد ليكون شريكا دوليا في إعادة إعمار سوريا وفي صناعة استقرار المنطقة.

فتح قيصر الكرملين الأبواب أمام عودة بلاده إلى المياه الدافئة فردت عليه واشنطن بقيصر الكونغرس الذي تحول إلى أداة لتطويع الطموحات الروسية​
لم يتأخر الرد الأميركي على ما كان يعتبر انتصارا روسيا أعاد الاعتبار لتوازنات الحرب الباردة، ومن منطلق صراع القطبين من بوابة دمشق التي كاد بعض العرب أن يستجيبوا للمطالب الروسية بإعادة فتح سفاراتهم في دمشق استعدادا لإعادة تعويم الأسد، إذ رفع الكونغرس الأميركي ورقة القيصر بوجه قيصر الكرملين وأقر قانونا يمكنه من معاقبة النظام وحلفائه والضغط من خلاله على الجهات التي تفكر بالتقارب مع دمشق أو الاندماج أكثر في مشروع الحل الروسي. وتمكن قانون حماية المدنيين السوريين المعروف بقانون قصير من أن يضع حدا لفكرة إعادة تعويم نظام الأسد والتراجع عن فكرة إعادته إلى الجامعة العربية، كما وضع القانون حدا لتلاعب موسكو بورقتي إعادة الإعمار وعودة اللاجئين وربطتهما بشرط التقدم في العملية السياسية تحت سقف القرار الأممي 2254 الذي لا تنسجم بنوده مع مسارات أستانة وسوتشي وموسكو وأنقرة.

ويعود ربط العملية السياسية بمقررات جنيف التي لا تلخص مستقبلا للأسد في مستقبل سوريا، الأمر الذي انعكس عودة للصراع على تشكيل اللجنة الدستورية التي لم يراع المبعوث الأممي الجديد لسوريا غير بيدرسون الحساسيات الروسية في تركيبتها، كما أن واشنطن من خلال قانون قيصر فرضت عقوبات تطال البنية الاقتصادية للنظام والشركات الخاصة والحكومة التي تفوض موسكو من أجل المشاركة في إعادة الاعمار.

فتح قيصر الكرملين الأبواب أمام عودة بلاده إلى المياه الدافئة فردت عليه واشنطن بقيصر الكونغرس الذي تحول إلى أداة لتطويع الطموحات الروسية.

السابق
ترامب يرفع سعر القواعد الأميركية وقطر تدفع المبلغ الأعلى
التالي
صدمة في تونس.. وفاة 11 رضيعاً داخل مستشفى