حين اكتشف هاني فحص أن الأحزاب الإسلامية «لينينية»!

هاني فحص

يمثل هاني فحص، في رأيي، شخصية فريدة حقاً، فقد جمع في تاريخه ما يمكن، لو وُزن بميزان الخطوط الحادة للأيديولوجيات، وحدود السياسة القاسية، أن يعتبر اختراقاً مفيداً للحدود والخطوط تلك.
درس فحص، اللبناني المولود في بلدة جبشيت من أعمال النبطية (1946 ـ 2014)، في حوزة النجف الشيعية، ونال إجازة في اللغة العربية والعلوم الإسلامية من كلية الفقه فيها، وجمع، بعد عودته إلى لبنان عام 1972 بين العمل الديني إماما لبلدته، والعمل السياسي، حيث كان ممن قادوا «انتفاضة مزارعي التبغ» في عام عودته نفسه (التي اعتبرت إحدى مقدمات انفجار «الحرب الأهلية اللبنانية» عام 1975)، وترشح عام 1974 للانتخابات متحالفاً مع الزعيم «التقدمي الاشتراكي» كمال جنبلاط، وانتسب إلى حركة «فتح» الفلسطينية (وكان على اتصال مع كبار قادتها) فصار نقطة اتصالها مع الخميني والثورة الإيرانية عام 1978 (رافق ياسر عرفات على الطائرة التي زارت طهران بعد أيام من انتصار الثورة)، غير أنه لاحقاً أخذ موقفا نقدياً منها، ومن ذراعها العسكري اللبناني «حزب الله»، وأعلن صراحة موقفه المؤيد للثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، وعلى المستوى الثقافي شارك في تأسيس منتدى أدباء جبل عامل مع أدباء وشعراء جنوبيين، وكتب قصصا قصيرة ونقدا أدبياً وله كتب كثيرة.
تظهر هذه السيرة طرق اشتباك جذور صاحبها الدينية الإسلامية/ الشيعية بالواقع المعقد في لبنان والمنطقة، كما تظهره أيضاً في صورة المثقف المنخرط في الشأن العام، السياسي والفكري والأدبي، بشكل منفتح على الأديان والتجارب الفكرية والسياسية، التي تتحاذى أحياناً مع تلك الجذور، أو تبدو على تناقض معها أحيانا أخرى، فلا هو يكتفي بالصواب الديني، ولا يكف، في الآن نفسه، عن إغناء مرجعيته التقليدية تلك بمناطق اصطدامها بشؤون الحداثة والعلمنة والأدب.

اقرأ أيضاً: رسالة الى أطفال العراق

تهيأت لفحص، من حيزه ذاك، نافذة فريدة تسمح له برؤية التناقضات الهائلة التي تعج بها عوالم السياسيين والمثقفين العرب والمسلمين، خصوصاً على تلك الحدود الفاصلة التي رفعتها الأيديولوجيات. انتبه فحص، على سبيل المثال، إلى ذلك الطلاق الذي قام به المثقفون العرب مع الثقافة العربية الإسلامية، التي هُجرت فجأة واعتبرت أسفارها «كتبا صفراء بالية ورجعية» فيما حلت مكانها، مع الرواج الكبير لموجة الماركسية، كتب كارل ماركس وأنجلز ولينين، واستبدلت كتب الأدب القديم بمؤلفات غوركي وغوغول وتشيخوف وشولوخوف، وأزيح القرآن وكتب الأحاديث ومعها مكتبة عربية ـ إسلامية هائلة ليحل مكانها البيان الشيوعي ورأس المال و»ما العمل» و»الدولة والثورة» (وصولا حتى إلى مذكرات ناديجدا كروبسكايا زوجة لينين). وحظيت الأيديولوجيات والمناهج الغربية عموماً باعتناق أشبه بالتقديس، بحيث حلت سلفية جديدة تستبدل عنعنات «السلف الصالح» بعنعنات أعلام الماركسية والوجودية والبنيوية والتفكيكية.

ومن خلال اقترابه الواضح من التجارب التنظيمية والحزبية العربية، لاحظ فحص تشابها بين البنى التنظيمية للأحزاب العربية، على اختلاف أيديولوجياتها والتزامها، بما فيها الأحزاب الإسلامية، بالبنية التنظيمية اللينينية للحزب.
جاءت فرضية فحص هذه على خلفية التقييم النقدي لمساوئ الأحزاب العربية، واعتمدت على فكرة أن هذه الأحزاب بنيت على مثال الأحزاب الشيوعية، التي بنيت بدورها على مثال الحزب اللينيني، بما فيها الحركات التي لم تبدأ بناءها على ذلك المثال، كما هو حال جماعة «الإخوان المسلمين»، التي لم تكن، حسب فحص، «مشروعا حزبياً بالمعنى الحديث للحزب، بل مشروع حركة منظمة تنظيما مرنا يلائم تركيب المجتمع المصري». في المقابل، يقرأ فحص تجربة حزب «الدعوة»، وهو أول حزب إسلامي شيعي، ظهر أوائل الستينيات بعد الثورة العراقية ومجيء عبد الكريم قاسم إلى الحكم، مع ظهيره الحزب الشيوعي العراقي، وبعد أن كان حركة دينية لمواجهة «التطرف الشيوعي والاستبداد القاسمي» تحول إلى حزب، فاعتبرته الحوزة الشيعية «اختراقا غربيا لبنيان علمي وفكري إسلامي»، لأنه التمس فكره التغييري ونظرياته الثورية من «خارج الفكر الديني السائد»، وساهم حزب «الدعوة» بذلك، في «زعزعة البنيان الحوزوي النجفي»، وهي زعزعة امتدت آثارها، حسب فحص، حتى الآن.
في محاولته لتأصيل العمل الحزبي العربي، لا يجد فحص علاقة للأحزاب العربية، على اختلافاتها الأيديولوجية، بالحزب الإسلامي الوحيد السابق في التاريخ الإسلامي، وهو «الحركة الإسماعيلية»، سوى في ما يتعلق بالباطنية والغموض، ورأى فحص أن كتمان الحركات السياسية العربية القديمة لأسرارها وتوجهاتها للحفاظ على كيانها لم «يحولها بنيانا مغلقا ضيق الأفق ونابذا للآخرين».
يعيد فحص ظاهرة التماثل التنظيمي للأحزاب العربية، إلى تعرفها على تاريخ الأحزاب الأخرى كالحزب الشيوعي، وإلى أن كثيرا من القيادات الوسيطة لتلك الأحزاب كانت كوادر شيوعية غادرت مواقعها لتنتظم في أطر الأحزاب الإسلامية، وتتحول مصادر رؤية في العمل الحزبي الإسلامي. ويعزو فحص جزءاً كبيرا من المسؤولية النظرية عن هذه البنى إلى الزعيم الشيوعي الروسي فلاديمير لينين، الذي نظر لحزب ثوري ذرائعي وغير معياري ينتج أخلاقياته ويجددها طبقا للحاجة السياسية، بدون الالتزام بنظام قيم أو أفكار معين، بحيث يبقى مشرعا على التغيير والتكيف والتبرير.

ويقتبس فحص، لتذكيرنا بأحوال أحزابنا الراهنة ببعض من أقوال لينين ومنها أنه بدون «حزب حديدي يعرف كيف يراقب الجماهير يستحيل أن يكتب النجاح لنضال من هذا النوع»، حزب يشدد على أن «المركزية المطلقة والتنظيم الدقيق للبروليتاريا هما من الشروط الأساسية لانتصارها»، موصيا بـ»الوقوف في وجه كل ما يسيء إلى الحزب والدولة وإبلاغ الحزب والدولة بكل خطر يهددهما»، ومطالبا بـ»المحافظة على الانضباط في الحزب والدولة»، و»مشاركة الأعضاء لا يجوز أن تحد من صلاحيات القيادات»، ومقترحا «إنزال أقصى العقوبات في من يلجأ إلى خلق تكتلات داخل الحزب»، ومقابل هذا الانضباط الحديدي والمراقبة والعقوبات فإن الحزب بمقاييس لينين و»الإخلاص للأفكار الشيوعية» يفترض «عقد التسويات العملية الضرورية والمراوغة والمهادنة والتقدم بخط لولبي وتراجع استراتيجي». إضافة إلى تأثير القياس والتفاعل فإن فحص يرى أن ضرورات تكوينية طبيعية ساهمت، لدى الأحزاب الإسلامية خصوصا، في تشكلها على هذه التركيبة الحزبية، عازيا ذلك إلى التحديات السياسية الكبيرة ومنها الغلبة الغربية في مصر بالنسبة للإخوان (والنظام العسكري الذي اضطهدهم)، والتطرف الشيوعي في العراق بالنسبة لحزب الدعوة، والاحتلال الإسرائيلي والحرب الأهلية اللبنانية بالنسبة لـ»حزب الله».

اقرأ أيضاً: علامات ومخاوف

تسهم هذه الانتباهات التي أنجزها فحص، في رأيي، في محاولة فهم منطقة مهمة في أساس نشوء الثقافة العربية الحديثة، وفي كشف جزء من التصدعات الكبرى التي عانت منها، كما تساعد، بالتأكيد، في كشف بعض الأوهام الأيديولوجية التي رافقت نشأتها، وأدت، إضافة إلى قضايا أخرى كثيرة، إلى إشكالات عويصة تعاني منها هذه الثقافة.
وتستحق هذه الفرضية إدراجها كإطار لدراسة ظواهر ثقافية ـ سياسية أكبر، وهناك مؤشرات كثيرة تدفعنا للاعتقاد بوجود مشتركات سياسية وتنظيمية وثقافية عابرة للأيديولوجيات، وهذه المشتركات ليست في البنى التنظيمية للأحزاب وحدها، لأن هذه البنى حواضن لسياسات وجدت فيها مكانا مناسباً للنمو، ورغم الصراع التناحري في ما بين الأحزاب الأيديولوجية على السلطة والمصالح والنفوذ، فهي في رأيي تصدر عن مشتركات سياسية متناظرة، فهي، في مجملها، تسعى إلى استبداد يسميه الشيوعيون «ديكتاتورية البروليتاريا»، ويسميه القوميون «الأمة العربية الخالدة»، ويسميه الإسلاميون «الخلافة»، وقد ساهمت تجارب هؤلاء السياسية، في تأكيد الطابع الصلب وغير الديمقراطي، وقد وصلنا، حالياً إلى درجة أن بعضهم، للمحافظة على السلطة، لا يمانع حتى في تغيير الأيديولوجيا التي جاء بها.

السابق
إسمع يا دولة الرئيس (56): لماذا الإصرار على تهجير فقراء بيروت؟!
التالي
مال الوقف أمانة يا جميل السيد