إصلاح أم صياح؟

لقد دقت طبول الحرب على الفساد، وباتت القوى السياسية تتبارى في مكافحته، وتحولت المنابر إلى مواقع تبشير بـ”الآدمية” والأخلاق وبالتصميم على المحافظة على الأموال العمومية واسترداد المسروق منها وزجّ الفاسدين في السجون الخ… وهو أمر مفرح، إذا ما اقترنت الأقوال بالأفعال وصدقت النيات، وإذا لم يكن قادة حملة الإصلاح رموزاً للفساد والإفساد وهدر الأموال العمومية، ومن المتفرغين للعمل في الحقل العام ” Full Time”، ولا يمارسون أية مهنة غير السياسة، وانتقلوا فجأة من حالة العسر إلى حالة اليسر الوافر، فتملكوا العقارات بإسمهم أو بأسماء مستعارة، وخزّنوا ودائعهم في المصارف، وأسسوا الشركات غير المنظورة ليخفوا الثروات غير المشروعة التي كدّسوها بحكم صرف نفوذهم واستغلال مواقعهم ووجودهم في الحكم والسياسة، ولممارسة فسادهم المكشوف الذي وضع لبنان في أعلى مراتب الفساد بين دول العالم، وإذا لم يكونوا ممن حموا الفاسدين، ودعموهم وغطّوا فسادهم.

ومن تمنياتنا ألا ينطبق عليهم قول أحمد المسلماني: “فاسدون ضد الفساد، وأغبياء ضد الجهل، ومنحرفون ضد الرذيلة، تلك معالم مشهد بات يتكرر بانتظام”.

غير أنه، وعلى رغم تناقض تاريخ “أبطال” مكافحة الفساد الجدد مع مزاعمهم الإصلاحية، لا يسع أي لبناني إلا الترحيب بإطلاق الحرب لمكافحة الفساد، لعلّ أبطال الفساد المعروفين قد ” شبعوا “، ولعلّ خزائنهم لم تعد تتسّع، أو لعلّهم أدركوا خطورة الوضع الذي بلغته الحال في لبنان، والذي بات يهدد مصالحهم وثرواتهم.

اقرأ أيضاً: حملة فاسدة على الفساد

البارحة اجتمع مجلس النواب، وشكّل المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وتقاسمت الطوائف والمذاهب والقوى السياسية المقاعد السبعة من النواب، كما تمت تسمية ثمانية من أعلى القضاة، ما يسمح بمحاكمة الرؤساء والوزراء الذين قد يتهمهم مجلس النواب.

إلا أن ما يتساءل عنه الناس، هل أن تعيين المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء يكفي، وحده، لمكافحة الفساد، وهو ليس جديداً في نظامنا، ولم يتمكن يوماً من مكافحة الفساد، ولم ينعقد يوماً للنظر في ملاحقة مسؤول، باعتبار أن وصول أي ملف إليه يجب أن يوافق عليه ثلثا أعضاء مجلس النواب، أي 86 نائباً من أصل 128، ما يجعل هذا المجلس ” كمالة عدد ” المؤسسات التي ينصّ عليها الدستور، وعاجزاً عن القيام بدوره.

إن هذه الطفرة الإصلاحية، التي يشارك فيها بعض رموز الفساد المعروفين، وحفلة التطبيل والتزمير لانطلاق مسيرة مكافحة الفساد، تذكراننا بقول الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إنه “يجب على الذين يحاربون الفساد تنظيف أنفسهم”.

إن الإجماع اللفظي لدى جميع القوى السياسية على مكافحة الفساد وإدانة الفاسدين، يوحي بأن ليس بين المسؤولين من فاسدين، وأنهم كلهم قدّيسون بررة، وأنه، ربما، الشعب فاسد ومسؤول عن كل الموبقات والاختلاسات والصفقات المشبوهة، ويجب معاقبته. وقد يكون وجود بعض من في السلطة اليوم العقاب الذي نزل بهذا الشعب المسكين، الذي يكتفي بـ”النقّ” والشكوى دون محاسبة.

ولئلا نقع في فخ الجدليات العقيمة، وتفادياً لذهاب ” همروجة” الإصلاح مع رياح الشتاء الآفل،وتفادياً لأن يكون ما يجري عملية تجميلية لتسهيل الحصول على أموال مؤتمر “سيدر” الموعودة، يجب الاستفادة من الظرف، و”اللحاق” برافعي الشعارات الإصلاحية ” إلى باب دارهم ” لإطلاق هذه العملية الإنقاذية التي أصبحت حاجة ملحة لإنقاذ النظام والاقتصاد وتوفير حاجات اللبنانيين الحياتية الأساسية تفادياً لانفجار إجتماعي كبير.

فالإصلاح الحقيقي يبدأ عند توافر الإرادة وصدق النيات والترفع عن المصالح الخاصة والزهد بمكاسب السلطة والحكم. فهو ليس نزوة أو قراراً أو تدبيراً، إنه سياسة ثابتة مستدامة ومسار دائم وشامل، يُتَرجم بالتنكّر لكل الروابط والصداقات والحزبيات والطائفيات والعائليات والمصالح، لا استثناء فيه لأحد، ولا حصانة فيه لأحد. ولا حماية فيه لأحد إنه مسار طويل مضنٍ متكامل، يبدأ باحترام الذات وباحترام اللبنانيين، وبالعودة إلى القيم والأخلاق، والتزام الدستور بصورة مطلقة، ولا سيما لجهة قبول الاعتراض والانتقاد والمعارضة، ولجهة فصل السلطات الدستورية واستقلالها، وبصورة خاصة رفع يد السلطة التنفيذية عن القضاء، وعدم التدخل في شؤونه وتشكيلاته لتسخيرها لمصالحها، وتفعيل التفتيش القضائي لتطهير القضاء من الفاسدين منه.

فكفى تسابق على إطلاق المشاريع والأفكار، فأنتم لم تخترعوا البارود،أقرّوا الاقتراحات الإصلاحية الموجودة في مجلس النواب، بدءاً بإقرار إقتراح القانون بإنشاء السلطة القضائية المستقلة (الذي قدمته في تاريخ 1/7/1997) بالإشتراك مع الرؤساء الحسيني والحص وكرامي والنواب محمد يوسف بيضون والمرحوم نسيب لحود)، وبرفع الحصانات عن متولي الخدمة العامة من رؤساء ووزراء ونواب وموظفين، وحسم مسألة إخضاع هؤلاء للقضاء العادي عند ارتكابهم أفعالاً جرمية، أكانت أثناء قيامهم بوظيفتهم أو خارجها، وذلك تحقيقاً للمساواة بين المواطنين المنصوص عليها في الدستور. وتفادياً لتفلتّهم من العقاب، يتعذّر أن يتهمهم مجلس النواب لاعتبارات سياسية، ولاعتبار القضاء العادل نفسه غير صالح للنظر فيها، كما حصل في السابق، وهو إقتراح ( مقدم مني شخصياً في 8/1/2009)، وتعديل قانون الإثراء غير المشروع (الذي قدمته أيضاً في تاريخ 19/12/2017)، ورفع السرية المصرفية عن حسابات كل متوليّ الخدمة العامة (الذي قدمته مع الزميلين دوري شمعون والمرحوم روبير غانم في تاريخ 18/1/2017)، ومنع الوزراء من الإصرار والتأكيد على تنفيذ المديرين مخالفاتهم للقانون تحت طائلة المسؤولية،(الذي قدمته في تاريخ 5/11/1990) ومنع إجراء أي تلزيم بالتراضي أو باستقصاء الأسعار، واعتماد إدارة المناقصات لإجراء تلزيمات الدولة وكل مؤسساتها العامة بمناقصات مفتوحة، وذلك بعد توسيع ملاكها بما يؤهلها للقيام بهذا الدور الكبير، بالإضافة إلى إقالة الوزراء الذين اشتهروا بالفساد وأعيد توزيرهم، وإلغاء كل أنواع التوظيفات المخالفة للقانون، ولا سيما منها تلك التي حصلت بعد موازنة 2017، وإقالة كل الوزراء والمديرين الذين أجروا هذه التوظيفات، وإحالتهم على القضاء المختص.

إن الحكومة أمام الامتحان، فهي، إذا تبنّت الاقتراحات الإصلاحية، وماشاها فيها مجلس النواب، الذي تمثل الحكومة أكثريته الساحقة، تكون صادقة في ما تعلن، أما إذا استمر الصياح والمزايدات ومحاضرات العفة من الجميع، بمن فيهم المشبوهون، فعن أي إصلاح يتكلمون؟

فمشكلة الفساد ليست في الممارسات فحسب، بل هي مشكلة نظام ومسؤولين لم يترفعوا عن الأنانيات، ومشكلة شعب وأمة سكتا على استمرار الفساد. ولقد آن الأوان لخوض هذه المعركة كأمة وكشعب لنحقق ما قاله الأديب عباس محمود العقاد: ” الأمة التي تحسن أن تجهد بالحق وتجترئ على الباطل تمتنع فيها أسباب الفساد”.

السابق
كيروز: في «اليوم المرأة العالمي» أوجه التحية الى المرأة اللبنانية في كل الساحات
التالي
«الأسد وشقيقه» في جعبة إيران وموسكو تفتح الباب للرياض وتل أبيب