إصلاح المناهج في حوزة النجف ضرورة لبقائها واستمرارها

السيد محمد حسن الامين
يتذكر العلامة السيد محمد حسن الأمين تجربته الدراسية والعلمية في النجف الاشرف ونعرض هنا لجانب منها مقتطف من حوار أعده الشيخ محمد علي الحاج العاملي مع السيد الأمين ونشره في كتابه "أمالي الأمين" الذي صدر قبل أشهر. وهنا يتحدث الأمين عن أوجه التعليم التقليدية في جامعة النجف، ويقترح سبلا لتطويره ..

سؤال: أشعر أنّ لديكم عاطفة خاصّة تجاه حوزة النجف الأشرف.. انطلاقاً من ذلك، وبعد خبرتكم التي تزيد على نصف قرن في الحوزة العلميّة؛ ما هي نصيحتكم لحوزة النجف الأشرف؟

تتميز جامعة النجف الأشرف بأنها من الجامعات العريقة التي ربما سبقت في نشأتها الكثير من الجامعات الإسلاميّة المتعددة في العالم، كجامعة الأزهر وجامعة القرويين في المغرب، وغيرها من الجامعات الأقل أهميّة، وهذا يكرس جامعة النجف بوصفها جامعة ذات تاريخ طويل وعريق، ومن الملاحظ أن الجامعات والمؤسسات العريقة تنشأ فيها عبر التاريخ مجموعة من القيم والمفاهيم، ويجري تكريس هذه القيم، سواء في شكل الدراسة كما في مضمونها، كما في السلوك المفروض على طلاب هذه الجامعة، وتصبح عملية النقد لهذه المناهج أو القيم المكرسة خروجا عن المألوف، بما يشبه الخروج على المقدسات، مع العلم أن المقدسات هي تلك التي تتصل بالأحكام الدينيّة الثابتة، أما ما يتصل بالمناهج وبالعادات والتقاليد حتى لو كان هذا مقدساً بنظر البعض فهو في واقعه إنجاز تاريخي بشري قابل للتطور والتغيير، وفق تطور العصور المتوالية.

اقرأ أيضاً: أنا منحاز إلى النجف!

ومما لا شك فيه أن ثمة متغيرات ومستجدات كثيرة، منذ تأسيس جامعة النجف، أي قبل ألف سنة، ثمة عالم يتغير، وثمة حاجة لتطوير مناهج الدراسة، كما ثمة حاجة لتطوير الخطاب الديني ولتجاوز الكثير من المفاهيم والقيم وأنماط السلوك، خلافا لما يراه البعض من العلماء والطلاب في هذه الجامعة، الذين يعتبرون أن تراث السلف الصالح في هذه الجامعة المتعلق بقيم التدريس، وتطوير المناهج وإضافة علوم مستجدة إلى المناهج المتبعة، يعتبرون بدافع الحرص على هذه الجامعة أن مثل هذه المتغيرات التي يمكن إحداثها سوف يؤثر على بنية هذه الجامعة وعلى قِيَمها سلبا، وسوف ينال من قدسية السلف الصالح الذي أسس لمناهج، وأرسى القيم التدريسية والعلمية، كما القيم التربوية والأخلاقية وصولاً حتى إلى موضوع الزي الخارجي لطالب العلم، فما زلتُ أذكر أن قيم جامعة النجف كانت تنتقد بشدة بعض المظاهر الشكلية بشأن الزي، كما على سبيل المثال انتقاد الطالب الذي يطيل شعر رأسه، أو يستعمل ساعة اليد، أو حتى الذي يلبس الجوارب، معتبرين ذلك خروجاً على قيافة الطالب، ومن ذلك اقتناء الراديو، فضلا عن التلفزيون، وكذلك قراءة الصحف التي كانت محظورة في القيم النجفية قديما، وإذا حاولنا من خلال هذه الأمثلة وغيرها أن نقيّم أنماط السلوك هذه فسوف نصل إلى توصيف يطال جانباً حيوياً من جوانب التطور الذي ينبغي أن يكون سمة لجامعة تستطيع أن تحتفظ بثوابت أساسية، ولكنها في الوقت نفسه تعجز عن مواكبة العصور المتغيرة، وهذا الموقف الذي نستطيع أن نصفه بالجمود غير المبرر يتصل أيضاً وإلى حد كبير بمناهج الدراسة، واقتصارها عبر فترة طويلة جداً من الزمن على كتب معينة، بحيث يغدو الإنتقال من هذه الكتب إلى مؤلّفات جديدة أنتجها علماء وفقهاء ليسوا غرباء عن المواد الدراسية التقليدية، يصبح الإنتقال إلى هذه الكتب أمراً يتنافى مع السلوك الدراسي القديم، وما زلت أذكر مثالا على هذا الأمر يتعلق بعلم المنطق، حيث الكتاب المكرس لدراسة المنطق هو حاشية ملا عبد الله التي يتجاوز التعقيد في عبارتها وأدائها كل الحدود التي يسوغها كتاب لدراسة المنطق، وكان شرط الطالب الجاد هو أن يدرس هذا الكتاب ويتقنه بعد معاناة كأداء، ولا يقبل منه أن يدرس كتاباً حديثاً يحتوي على مضمون كتاب الحاشية ويزيد عليها، وهو كتاب منطق المظفر الذي وضعه عالم متضلع بشؤون المنطق، ولكنه يمتلك منهجية التوضيح والسهولة في أداء المطالب، أي مطالب علم المنطق، وهكذا في كتب كثيرة، في الأصول والفقه.
أقول: إنّ التمسك بمناهج الدروس عبر الكتب القديمة، وأمام تعقيداتها يمكن للطالب أحيانا أن يعجز عن متابعة الدراسة، وهذا ما حصل لطلاب كثيرين، كما أن من مجالات النقد الحيوية لمناهج الدراسة هو أن القيم التقليدية للحوزة العلمية في النجف تأبى إدخال أي علم من العلوم الحديثة المستجدة إلى مناهج الدراسة، وعلى الأخص فإنها تأبى إدخال دراسة لغة أجنبية يفترض العصر الراهن أن يتوفر عليها تحصيل العالم الديني.

اقرأ أيضاً: السيد الأمين: عن ضرورة التفاعل بين الدراسة الفقهية والدراسة الأكاديمية

في خلاصة هذه الرؤية النقدية، ومع التأكيد الذي سبق وأن أوردناه لجهة ضرورة استمرار جامعة النجف بوصفها ذات الأولوية بين الجامعات والحوزات الدينيّة الشيعية، أقول رغم ذلك فإنني لأحسب أن هذه الجامعة لا يمكن أن تستمر على النحو الذي نطمح إليه إلا في معالجة هذه المشاكل والعقد التي ذكرناها، وفي إدخال معارف وعلوم معاصرة إلى مناهجها، كما أنه يجب إدخال عنصر التنظيم الذي يشكل ضرورة لا بدّ منها بحيث يكون هناك ما يشبه أنظمة الجامعات المتقدمة في عالمنا اليوم، من حيث المراحل التي تمر بها دراسة الطالب لهذه العلوم فلا يترك الطالب وشأنه في تدبير شؤون دراسته، بل لا بدّ أن يلتزم بنظام جامعي ينقله من الدراسات التحضيرية إلى الدراسة الجامعية، ومن ثم إلى الدراسات العليا التي تتوّج عادة بما يسمى بشهادة الدكتوراه، وربما جاز لهذه الجامعة أن لا تلتزم حرفياً بتسمية هذه المراحل، وأن تحتفظ لنفسها بخصوصية الأسماء التي تطلقها على مراحل الدراسة، فلا يعود الأمر كما هو الآن، حيث يصعب على الناس وعلى العامّة التمييز بين الذين يرتدون اللباس الديني نفسه، والعمامة نفسها، دون معرفة ما هي الشهادة التي يتميّز فيها هذا المعمم عن ذاك.
وهذا في نظرنا ليس أمراً شكلياً بسيطاً، لأن عدم وجود معايير وشهادات يؤدي إلى الكثير من الفوضى في نقل وابتداع الفتاوى التي لا يعرف صاحبها إذا كان جديراً بهذه المهمات، أو غير جدير بها.

هذا ملخص ما يمكن أن يطرحه الناقد والحريص في الوقت نفسه على جامعة يعتبرها الجامعة الأعرق والأقدر على الإستمرار، وخصوصا انه تعلّم فيها وأحبها، وبذلك فهو يحرص على إصلاحها كما يحرص على تمجيدها والدفاع عنها.

(من كتاب “أمالي الأمين” للشيخ محمد علي الحاج العاملي)

السابق
لا صحة للخبر المتداول عن توقيف ضابط بفضيحة ادارة شبكة دعارة
التالي
سلام السوبر ماركت