في ذكرى تحرير صيدا… لكل زمان مقاومة ورجال

مرفأ صيدا
...مرّ علينا الأسبوع الماضي الذكرى الـ 34 لتحرير مدينة صيدا في 16 شباط 1985.

نقول الذكرى لأنها فعلا غدت ذكرى في زمن قل فيه من يتذكر ويذكِّر الناس بما مضى من أيام قاسية في معاناتها، مجيدة في معانيها، يوم كانت المقاومة جامعة للناس بكل أو بجُل أطيافها السياسية والطائفية.

باتت ذكرى تمر مرور الكرام على البلاد والعباد حتى على الذين يحملون اليوم لواء المقاومة والتحرير، ربما لأنها كانت مقاومة وطنية من طينة أخرى ، طينة ذلك الزمان المختلف كليا عن اليوم، كان زمان الوحدة والتكاتف في مواجهة الإحتلال حيث لم يكن من فضل لمقاوم عربي على إسلامي ولا لشيوعي على قومي إلا بما يقدمه للمقاومة.

كانت صيدا أول نصر وتحرير بعد بيروت بإتجاه الجنوب، بعد إجتياح العام 1982، وكانت فعلا بوابة الجنوب إلى التحرير لم يثنها عن المقاومة لا مفاوضات خلدة أو نهاريا، ولا الصراعات اللبنانية الداخلية التي كانت قائمة يومها وتعمقت مع الإجتياح وخلاله وبعده.

اقرأ أيضاً: في ذكرى تحرير صيدا… سيبقى الحلم

كانت جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية (جمول) قد إنطلقت يرفدها رجالات صيدا الأوفياء من مقاومين وساسة ورجال دين ومواطنين عاديين لا يتسع المجال هنا لتعداد أسمائهم وكان على رأسهم المناضل مصطفى معروف سعد، الذي دفع غاليا ثمن خياره المقاوم، حين فقد فلذة كبده إبنته ناتاشا، وفقد بصره كي تنعم صيدا والجنوب بنور التحرير، كذلك النائب وقتها نزيه البزري الذي صمد مع أهله في صيدا في أصعب الظروف وغيرهم الكثير منهم من قضى نحبه شهيدا ومنهم من أسر وقد تسعفنا الذاكرة وهي في حالة رماد ببعض الأسماء مثل نزيه قبرصلي وجمال الحبال والشيخ محرم العارفي وغيرهم وغيرهم من صيدا والجنوب وكل لبنان. وإن ننسى لا ننسى قاضي شرع صيدا تلك الأيام السيد محمد حسن الأمين الذي كان رأس حربة في التجييش والتحريض على الصمود والمقاومة ورفض التعامل مع العدو، حتى أضطر العدو معها لإبعاده عن صيدا إلى بيروت في حادثة لاقت الكثير يومها من ردود الفعل نظرا لمكانته ودوره. لا نقول هذا تزكية لأحد ولا تدليسا أو محاباة لأحد، بل هي الحقيقة التي عايشناها يومها والتي يحاول البعض اليوم تزييفها أو على الأقل طمسها في محاولة لتجيير كل النضال لنفسه وهذا غير صحيح ، فلكل مرحلة وزمان كان هناك مقاومة ورجال صدقوا ما عاهدوا الله والوطن والشعب عليه. ولندع السيد محمد حسن الأمين يروي مجريات أحداث تلك الأيام في شهادة قيمة أملاها على الشيخ محمد علي الحاج العاملي في كتابه “آمالي الأمين”. يقول السيد “بدأ الإحتلال الإسرائيلي عام ١٩٨٢ وبدأت بشائر المقاومة منذ هذا الإحتلال، وكانت صيدا في تلك المرحلة مؤهلة كمدينة مركزية لإحتضان المقاومة وتعززت بصورة ملفتة النشاطات الدينية والإجتماعية والسياسية في مواجهة هذا الإحتلال. وأذكر أن المفصل الرئيسي لهذه المسيرة المقاومة بدأت في لقاء دعينا إليه يوم جمعة، في مسجد الزعتري وكان إحتفالا حيويا ويضم الآلاف من شباب صيدا ورجالها، وتم في هذا الإحتفال إعلان الدعوة إلى المقاومة المسلحة في وجه الإحتلال الصهيوني ، وكان الإسرائيليون يعرفون ماذا يجري في هذا اللقاء، ولذلك حاولوا إدخال الرعب إلى القلوب، بأن إستحضروا عددا كبيرا من الدبابات والجنود، وأحاطوا بالمسجد، أملا بأن يفرقوا الجموع.. وكانت النتيجة أن هذه الجموع إزدادت إصرارا، وخرجت تظاهرة من بين الدبابات الإسرائيلية، وهذا يؤرخ لمرحلة مفصلية من تاريخ المقاومة للإحتلال الإسرائيلي، وعلى إثره أستشهد المرحوم الشيخ راغب حرب، الذي كان معنا في المسجد، وكان ينام عندي في صيدا حينما كان مطاردا، ثم كنت أنا أنام في أماكن أخرى.

وكان يتوقع الكثير أن يطالني الإغتيال، وهنا لا بد ان أذكر منقبة للوجيه الحاج توفيق زيدان وكان يبلغ قرابة المائة عام وقد طلب مني أن أذهب سرا إلى بيته خلال الأيام العصيبة وكنت أقيم فيه وأنام. بعد ذلك كنت متوقعا القتل، لكنهم هاجموا منزلي الساعة ١٢ ليلا وأعتقلوني بعد أن قاومتهم باليد.. أخذونا إلى جزين، وأوهموني أنه صدر بحقي حكم إعدام، جاوبتهم أجوبة حادة وقلت لهم أن أمنيتي أن أموت على يدكم، وفي النهاية جاء ضابط وقال: قررنا عدم إعدامك لكن نحن في بيروت أقدر عليك من هنا. وقبل ذلك بليلة كنت على تواصل – هاتفيا – مع السيد محمد حسين فضل الله وطلب مني بعاطفة وحرص الإنتباه على نفسي. لذا عقب خروجي من الإعتقال وإبعادي إلى بيروت، فقد طلبت من السائق الذي أوصلني إلى بيروت أن يأخذني إلى بيت السيد فضل الله وكنت حينها بدشداشة وبدون عمامة.. ليلا وصل الخبر للإذاعات والإعلام المحلي والعربي، بأنه تم إعتقال قاضي شرع صيدا فتوافد عشرات الصحفيين إلى منزل السيد محمد حسين.. يومان بقيت لدى السيد محمد حسين فضل الله، ثم إنتقلت إلى منزل شقيقة زوجتي .. إنتهى كلام السيد محمد حسن الأمين.

اقرأ أيضاً: ذكرى تحرير صيدا: الاحتلال زال فهل الوطن باقٍ؟

وهذا غيض من فيض التضحيات التي قدمها الناس وقتها في سبيل تحرير الأرض دون منة ولا دعم، كانت الناس تقاتل باللحم الحي في مرحلة كان فيها اليأس والإحباط سيد الموقف. نكرر ونقول أن الهدف من عرض هذه التفاصيل ليس التزكية، بل محاولة إظهار بعض الفضل ونسبه لأصحابه ومستحقيه من شهداء وأسرى ومقاومين، ومحاولة للإضاءة على أناس ربما لا يعرف عنهم شيئ من لم يعايش تلك المرحلة من الأجيال الجديدة، على أمل أن يعاد تسليط الضوء على تلك المرحلة بموضوعية وأريحية بعيدا عن الإستغلال السياسي والحزبي وليأخذ كل ذي حق حقه المعنوي على الأقل، ولتكن لنا تلك المرحلة عبرة في التضامن والتكاتف ونكران الذات حيث لم تكن المذهبية قد تسربت يومها إلى النسيج الإجتماعي كما هي اليوم، وهو ما ساعد في إنجاز التحرير.

السابق
إسقاط «ديما جمالي» رسالة لحكومة «إلى العرقلة»!
التالي
رسالة تكشف استحواذ بلجيكا على جزء من أموال القذافي