أبناء المناطق الزراعة تحت حُكم «ودّع مريضك»: من يحررهم من «مافيا» هذا القطاع؟

مستشفى
إذا كانت الصحة هي عبارة عن السلامة الشخصية للفرد التي يستطيع من خلالها أن يعيش حياة منتجة اقتصاديًا واجتماعيًا، وإذا كانت المنظمات الدولية وفي مقدمتها منظمة الصحة العالمية، قد أقرت بأن الصحة هي" حالة اكتمال السلامة البدنية والعقلية والاجتماعية لا مجرد انعدام المرض أو العجز" . فتصبح صحة الأفراد والأسرة على قدر كبير من الأهمية والتي تقع على عاتق الدولة ومؤسسات المجتمع المدني والأهلي او على عاتق المؤسسات الضامنة التي بدورها لا تشمل سوى فئة محددة من السكان العاملين في القطاعين العام والخاص.

وإذا كانت محددات الصحة الأسرية تأخذ ابعادا اقتصادية واجتماعية وتربوية متعددة، الا أننا سوف نقتصر معالجتنا لموضوع صحة الأسرة لناحية الخدمات الصحية المتوافرة للسكان في منطقة لا زالت تعاني من الحرمان الاقتصادي والاجتماعي منذ الاستقلال. فما هي محددات الصحة الأسرية؟ وما هي التقديمات الصحية التي توفرها المؤسسات الصحية في المنطقة أكان ذلك على مستوى الاستشفاء أم على مستوى الطبابة والتشخيص والخدمات الصحية الأخرى ، معتمدين في ذلك على تقنية علمية تمثلت بالمقابلة مع مجموعة من السكان للوقوف على آرائهم من الخيارات التي تعتمدها الأسرة عند تعرض أحد افرادها لوعكة صحية تستدعي المعالجة . فما هي الدوافع التي تقف وراء هذه الخيارات في منطقة يعتمد معظم سكانها في معيشتهم على القطاع الزراعي وعلى بعض الصناعات الحرفية البسيطة التي لا تشملها الحماية الصحية للمؤسسات الضامنة.
اولا: العلاقة بين الصحة والتنمية: لقد أصبحت الصحة من الأمور الأكثر أهمية في مجال التنمية، وذلك بوصفها من العوامل التي تسهم في التنمية المستدامة وأحد مؤشراتها. “فلا يمكن تحقيق تنمية مستدامة بدون سكان أصحاء. ففي حين تمثل الصحة قيمة في حد ذاتها، فإنها تعتبر كذلك مفتاحًا للإنتاجية والرخاء الاقتصادي والاجتماعي والثقافي، ذلك أن العديد من حالات التردي الصحي والصحة المعتلة تؤثر تأثيرًا كبيرًا في النمو والتنمية، ولأول مرة تناولت اجتماعات مجلس الأمن ومجموعة الثمانية والمنتدى الاقتصادي العالمي ومنظمة التعاون والنمو الاقتصادي صراحة القضايا الصحية بوصفها قضايا انمائية”.

اقرأ أيضاً: إيلي زيتوني: هناك عملية حسابية معقّدة لتحديد السقوف المالية للمستشفيات

ثانيا: الانفاق على الصحة في لبنان: يتدنى المردود الصحي في لبنان رغم الكلفة الباهظة التي يتكلفها قطاع الصحة اللبناني فلبنان يحتل المرتبة الحادية عشرة عربيا في مؤشرات الصحة وذلك رغم أن إنفاقه يأتي خامسا عربيا بعد الكويت والبحرين والإمارات والسعودية علما ان متوسط دخل الفرد في لبنان ينخفض بنسبة ست مرات عن متوسط دخل الفرد في تلك الدول. وفاتورة العلاج في لبنان تتكلف سنويا نحو ملياري دولار وتمثل نحو 11% من الناتج القومي اللبناني وهي بذلك أكبر من كلفة الاتحاد الأوروبي والتي تمثل نحو 8%، علما ان حوالى 45% من السكان في لبنان لا تشملهم مظلة التأمين الصحي ( كالعاملين في القطاع الزراعي والمسنين والمتعطلين عن العمل وغيرهم).
نوعية الخدمات الصحية للأسرة في الريف: تخضع أسر القرى في قضاء حاصبيا لمعادلة صعبة للحصول على الخدمات والعناية الصحية، فالمؤسسات الصحية المتوافرة لا تلبي الحد الأدنى من التقديمات والخدمات الصحية خصوصًا في الحالات الطارئة والمفاجئة كالنوبات القلبية وغيرها، إضافةً إلى صعوبة المواصلات والبعد الجغرافي للوصول إلى المراكز العلاجية المتقدمة والمتطورة في المدن.. لذلك فإن الخيارات الصحية للأسر تخضع كغيرها من السلع لمبدأ العرض والطلب. وتزداد المشكلة الصحية تعقيدًا حينما تتدنى مستويات المعيشة، وتتضاءل نسبة السكان الذين يستفيدون من التأمينات الصحية والاجتماعية، ما ينعكس على البناء الصحي للأسرة بشكل عام، ويصبح موجهًا بناء لمتطلبات كل طبقة اجتماعية بما يتلاءم مع حالتها الاقتصادية والاجتماعية. وبهذا المعنى، تصبح الخدمات الصحية على قياس قوة الإنسان الاقتصادية والاجتماعية، وتفرغ من معناها الحقوقي والإنساني، ولم يعد ينظر إليها كإحدى مكونات التنمية البشرية باعتبارها حق وواجب في آن معًا، أي “حق جميع الناس في الحصول على الخدمات الصحية بشكل عادل ومنصف فيما بينهم”.

شؤون جنوبية 170
وتتوزع المؤسسات الصحية في قضاء حاصبيا بين المستوصفات الأهلية والحزبية والعيادات الخاصة والمستشفيات الحكومية بحيث تعاني هذه المؤسسات، ولا سيما الأخيرة، من سوء الخدمات بشكل فاضح، سواء على مستوى النقص في التجهيزات اللوجستية والتقنية ام على مستوى الكادر البشري المتخصص والمدرب. ويطلق د. معضاد رحال على هذه المستشفيات تسمية “ودّع مريضك” حيث يقول: ” في الواقع القطاع الصحي في لبنان تحكمه مافيا القطاع الخاص ويساهم الى حد بعيد في تقسيم طبقي للمجتمع اللبناني، فالفقراء يتخذون خيارات صحية تختلف كليا عن الميسورين ومتوسطي الحال، أما الحالة في المناطق الطرفية وخصوصا قضاء حاصبيا فان هناك أزمة حقيقية، ليس في عدد المؤسسات الصحية فهي كثيرة ومتعددة ويتزاحم المسؤولون عنها بزيارة القرى كحالة من الدعاية وكسب الراي العام (نحن موجودون معكم) لكن المشكلة الكبرى تكمن في نوعية الخدمات التي تقدمها المستشفيات، اذ يوجد ثلاثة مستشفيات حكومية على خط لا يتجاوز طوله ثلاثين كيلو مترا موزعة كحصص طائفية ومذهبية وأي مريض يدخل اليها يخرج اما معطوبا او ميتا، ومن يبقى حيا فان العناية الالهية تكون قد تدخلت لانقاذه، لذلك انا اطلقت على هذه المستشفيات تسمية ودع مريضك عند دخوله الى احداها. فهذا التقاسم الطائفي ينعكس سلبا على مستوى الآداء، اذ كيف يمكن تفسير تكليف طبيب بنج بادارة قسم العناية الفائقة في احد هذه المستشفيات؟ وكيف سيكون آداءه طالما ان تخصصه لا يتلاءم مع المهمة الموكلة اليه”.

اقرأ أيضاً: ندوة «شؤون جنوبية» عن المستشفيات: هكذا يتم تسييس الاستشفاء 

أما المستوصفات التابعة لمختلف المؤسسات الحزبية والطائفية، فهي على شاكلة الدوائر والمؤسسات الحكومية من حيث الفتح والإقفال وتقتصر تقديماتها وخدماتها على بعض الوصفات الطبية والعلاجات البسيطة، وهذا ما يضع غالبية الأسر أمام خيارات صعبة سواء بالنسبة للمعالجة الصحية أو للوقاية والإرشاد الصحي. فالأسر الميسورة تضطر للإنتقال إلى العاصمة لتلقي العلاج أو الاستشفاء بهدف الحصول على خدمات أفضل، والأسر الفقيرة تقع تحت وطأة تدني الخدمات في المراكز الصحية الحكومية والأهلية التي تتميز بنقص التجهيزات كمًا ونوعًا، وهكذا تصبح العقدة مزدوجة أمام الأسرة: الحالة المعيشية التي يعاني منها غالبية السكان من ناحية، وتدني معدلات التقديمات الصحية من ناحية ثانية، وبهذا يصبح الطلب على القطاع الأهلي أحد الخيارات الأساسية للسكان لسببين: الأول، يتعلق بالإنتشارالأفقي للمراكز الأهلية التي تعود بمعظمها إلى الأحزاب والجمعيات التي تتنافس في تقديم الخدمات الصحية للمواطنين، والثاني تدني التكلفة التي تناسب غالبية السكان. وتعلق احدى السيدات على هذه الحالة بقولها: ” الحالة عنا كثير صعبة على كل الأصعدة وخاصة عند المرض، على بيروت ما فينا نروح نتحكم وضعنا ما بيسمحلنا، بنروح على مستوصف بندفع مصاري وما بنستفيد من الحكمة، ومش كل وقت بكون المستوصف فاتح بسكروا كانن في وظيفة دولة، والمسشفيات وضعها اصعب على حساب وزارة الصحة يعني ما في عناية ولا في اهتمام وفوق هيك لازم ندفع ما في شي بلاش، وبهالحالة لازم نستدين ونروح على المستشفيات الخاصة واذا كان على حساب وزارة الصحية لازم نفتش على واسطة مع احد المسؤولين”. ان هذه الحال ينطبق على كثير من الأشخاص الذين جرت مقابلتهم بحيث ان الغالبية اعربوا عن استيائهم من تدني مستوى الخدمات الصحية وان المسألة لا تمكن في تعدد المؤسسات الصحية بقدر ما تكمن في نوعية الخدمات ولا سيما في استحداث مراكز ثابتة للاسعاف السريع التي لا تحتمل الانتظار والتأخير (كالنوبات القلبية والولادة).
في الخلاصة: نستنتج مما تقدم ان السلوك الصحي للسكان في المناطق الريفية يخضع لأبعاد اقتصادية ومهنية بامتياز، ولا يوجد امام السكان الذين لا يستفيدون من المؤسسات الضامنة سوى خيار اللجوء مرغمين الى المستشفيات الحكومية او الى المستوصفات التي تقتصر تقديماتها على بعض الأدوية وبعض العلاجات والتشخيص البسيط. وهذا الواقع يؤدي الى دفع الغالبية الى مؤسسات القطاع الخاص التي يترتب عليه نفقات عالية تفوق قدرات الأسرة التي تلجأ بدورها الى الاستدانة.

(هذه المادة نشرت في مجلة “شؤون جنوبية” العدد 170 شتاء 2019)

السابق
أوسع تدريب للجيش الإسرائيلي استعداداً للقتال ضدّ «حزب الله»
التالي
هيئة المبادرة المدنية – عين داره و«المدعو عبدالله حداد» يردون على آل فتوش الكرام